طائر” البشروش ” بين دمشق وواشطن …بقلم طائر” البشروش ” بين دمشق وواشطن

ان من أسباب الموقف الأمريكي المعادي بشدة للنظام السياسي والدولة في سورية، هو اعتقاد واشنطن أن محاولاتها لـ”تغيير سلوك النظام” في دمشق لم توصل إلى نتيجة، ولا بد من العمل على “تغيير النظام”، وهذا كفيل –من منظور واشنطن- بأن تتغير سورية ومعها الإقليم ككل.

فيما ترى دمشق أن مساعي واشنطن لـ”تغيير سلوك النظام”، هو نوع من “الاحتواء” و”الاستهداف” البعيد والعميق، الذي يعني تغيير سورية نفسها لأن تصبح بلداً تابعاً للولايات المتحدة، وجزءا من سياساتها ورهاناتها الإقليمية والدولية، وهذا –من منظور دمشق- أمر مرفوض، ولا بد من مقاومته.

في الحكايات ان طائراً يُسمّىى  البشروش، عندما يجد صعوبة في تدبير حياته وبقائه، يتدبر إنهاء كل شيء، باتباع طريقة فريدة في ذلك، إذ يطير إلى ارتفاع شاهق، ويواصل طيرانه متجهاً صوب الشمس، حتى آخر نفس، فيموت وهو في الجو.

يمكن لهذه الاستعارة الحكائية أن تساعد بكيفية ما في قراءة أو تقدير الموقف بين سورية والولايات المتحدة، وذلك من منظورين رئيسين، هما منظور دمشق حيال واشنطن، ومنظور واشنطن حيال دمشق. ولنبدأ بمنظور واشنطن.

·         ترى واشنطن أن دمشق لن تغير سياستها بالتفاوض أو بمحض اختيارها، وان دينامية الضغوط-الإغراءات السابقة التي اتبعتها حيالها لم توصل إلى نتيجة، ومثل ذلك بالنسبة لديناميات “التكيف” معها أو “تكييفها”، وان هذا الحال لن يتغير إلا بـ”تغيير” النظام أو إكراهه على أن يغير  مواقفه أو بالأحرى أن “يغير نفسه”.

وهكذا، كانت واشنطن أحد محددات وفواعل الحرب السورية منذ العام 2011، وتواصل واشنطن إلى اليوم سياسات الإجهاد والخنق الاقتصادي، ورفع تكلفة المواقف والسياسات، والحصار والتطويق السياسي، ومحاولة “احتواء” و”تفكيك” التحالفات لدى سورية.

كما تواصل واشنطن “حرباً هجينة” لا هوادة فيها، بهدف التأثير على نظم القيم والبنى الاجتماعية والسياسة، ليس لدى السوريين فحسب، وإنما لدى حلفائهم أيضاً. ويمثل قانون سيزر الذي تم فرضه ضد سورية ويبدأ تنفيذه منتصف حزيران/يونيو الجاري أحد أهم أدوات تلك الحرب.

*

بالمقابل، فإن دمشق ترى أن واشنطن لن تغير سياساتها المعادية لها، وأن السبيل الوحيد الممكن هو المقاومة، ذلك أن تكلفة المقاومة -مهما كانت- هي دوماً أقل من الاستسلام. وان كل محاولات التفاهم أو التقارب مع الولايات المتحدة كانت تصب دوماً وحكماً في خدمة إسرائيل، وتجعل المنطقة العربية والشرق الأوسط جزء من مشاريع الهيمنة الأمريكية على العالم.

وهكذا، فإن كل تقدم تحققه دمشق في الحرب الدائرة في سورية وعليها منذ العام 2011، يمثل تراجعاً وخسارة لواشنطن، الأمر الذي يفسر كيف أن واشنطن تعمل بكل ما أمكنها من حيلة وقوة على إجهاض أو تقويض الانتصار العسكري للجيش السوري وحلفائه، وخاصة إيران وحزب الله، ومنع دمشق من تحويله إلى انتصار سياسي.

بل ان واشنطن، وخاصة مع قانون سيزر، وبالتوازي مع ديناميات تدخلها الأخرى في الحرب، مثل: سيطرتها على مناطق شرق الفرات ومنطقة التنف على الحدود مع العراق، ودعمها مشروع الكيانية التركية والقاعدية في إدلب وريف حلب، … تحاول “إعادة إنتاج” لحظة 2011 في سورية، بهدف تحقيق ما لم يمكن تحقيقه خلال عقد من الحرب، وهو “إسقاط النظام” السياسي في دمشق والسيطرة على سورية.

ان المنطق العميق لتعبير أو استعارة طائر البشروش من منظور دمشق يحيل إلى فكرة المقاومة نفسها، وأنها السبيل الوحيد أو الرئيس لمواجهة إكراهات الحرب، وان التراجع عن جزء من الأهداف والسياسات سوف يفضي إلى تراجع عن الكل.

وهكذا، فقد بدت تصريحات جيمس جيفري التي تضمنت شروط واشنطن لتجميد أو رفع العقوبات التي قررها قانون سيزر، أقرب للشروط التي قدمها وزير الخارجية الأمريكية الأسبق كولن باول للرئيس بشار الأسد خلال لقائه به في دمشق في أعقاب الاحتلال الأمريكي للعراق، بل هي “إعادة إنتاج” معدلة أو محدثة لتلك الشروط.

تدرك دمشق ان التغيير الذي تطلبه واشنطن منها، هو منزلق خطير سوف يؤدي إلى إعطاء واشنطن وتل أبيب بالسياسة ما لم تتمكنا من أخذه بالقوة والعسكرة والإرهاب، وان الاستجابة لما تريدانه سوف يعني التسليم بإرادتهما، والاستسلام لهما، الأمر الذي يعني أن النظام السياسي لن يكون هو النظام الذي نعرفه، وسورية لن تكون سورية التي نعرفها، بل ستكون سورية أخرى، ما يعني الانهيار أو الموت بالمعنى السياسي والقيمي والتاريخي.

·      ان قراءة واشنطن لطبيعة النظام السياسي في دمشق، من أنه “غير مرن”، هي قراءة صحيحة وخاطئة في آن.

صحيحة بمعنى أن سورية تواصل خطاً رئيساً لم يمكّن واشنطن  من تغييره، وقد واصلت خلال عدة عقود مقاومة مشروعات أمريكا وإسرائيل للهيمنة على سورية والمنطقة، ربما لم تحقق دمشق ما تصبوا إليه، إلا أنها لا تزال تمثل عقبة تحول دون تفكيك قضية فلسطين.

وهي قراءة خاطئة، لأن سورية اتبعت سياسات مرنة على الصعيد الخارجي، وأقامت تفاعلات إقليمية ودولية واسعة النطاق، واستطاعت -بقدر أو آخر من النجاح- “تدبير” الموقف في العديد من الأزمات والصراعات الإقليمية، مثل: حرب الخليج الأولى والثانية، الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، سياسات المقاومة ضد إسرائيل، والأهم هو تمكنها من “تدبير” بقائها خلال عدة عقود من الأزمات في الداخل والخارج.

·        يرى الأمريكيون أن “التكيف” مع النظام السياسي في دمشق أو العمل على “تغيير سلوكه” هو من المستحيلات في عالم اليوم، فهو نظام لن يتغير، ولا يستطيع أن يتغير، مثله مثل طائر البشروش، يموت ولا يلين.

وهذا ما يراه السوريون أيضاً، ويجب الاعتراف بأن ذلك يمثل “قناعة مشتركة” بين دمشق وواشنطن!

الكاتب

د. عقيل محفوض كاتب واستاذ جامعي متخصص بالشؤون التركية والشرق أوسطية له العديد من الكتب والدراسات.

Visits: 0

ADVERTISEMENT

ذات صلة ، مقالات

التالي

من منشوراتنا

آخر ما نشرنا