قانون “قيصر”.. لهذه الأسباب يبقى محدود التأثير ….بقلم أنس الراهب 


على الرغم من الضجيج الهائل الذي ناله هذا القانون الأميركي، لكنَّ تأثيره يبقى محدوداً في الاقتصاد السوري، وحتى اللبناني.

لجأت الولايات المتحدة الأميركية في العقود الثلاثة الأخيرة إلى التصعيد مع سوريا، واستخدام سلاح العقوبات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية، ووصلت إلى أقصى درجات التهديد والضغوط، من دون الوصول إلى الاقتتال المسلَّح أو الحرب المباشرة بينهما. وتم الإبقاء على هامش خلال مراحل التّصعيد، يسمح بإجراء مفاوضات مستقبلية قد تؤدي في النهاية إلى الوصول إلى نوع من التفاهمات بينهما.

بعد تفجير برجَي التجارة في الولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم غزوها العراق واحتلاله، وتسبّبها بمقتل ما يقارب مليون ونصف المليون مواطن عراقيّ، جاء وزير خارجيتها آنذاك كولن باول إلى سوريا، ليطالبها بقطع علاقاتها مع كل من المقاومة الفلسطينية واللبنانية (حزب الله)، وبضرورة تغيير سلوكها والتقارب مع الكيان الإسرائيلي.

وأمام الرفض السّوري لهذه المطالب، قامت الولايات المتحدة الأميركية بإدخال سوريا إلى ما سُمّي بالدّول المارقة، وزادت حصارها الاقتصادي عليها، ثم أعلنت وزيرة خارجيتها كونداليزا رايس عن مشروعها الإجرامي في نشر الفوضى الخلاقة في المنطقة.

بدأت هذه الفوضى مع اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق الشهيد رفيق الحريري، واستصدار قرار من مجلس الأمن لسحب القوات السورية من لبنان وتجريد حزب الله من سلاحه، ليتمّ العدوان الإسرائيليّ عليه، ثم إنشاء المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان، وتوجيه الاتهامات إلى سوريا مباشرة، لتوريطها في حادثة الاغتيال وتشويه صورتها دولياً، لزعزعة النظام فيها، تمهيداً للانتقال إلى المراحل التالية.

تمرّ سوريا اليوم بأخطر لحظات الصّراع الإقليمي والدوليّ، بعد أن استغلَّت الولايات المتحدة المطالبات والاحتجاجات الّتي حدثت فيها خلال آذار/مارس 2011 وما بعدها، لتقوم مع وكلائها في المنطقة بتأجيجها وتشكيل خلايا وميليشيات ذات طابع ديني طائفي متشدّد وإرهابيّ، فدعمتها بالمال والسّلاح والتغطية الإعلاميّة والحماية السياسيّة، لتنهك البلاد وتفتك بها، فأدخلت إليها عشرات الآلاف من الإرهابيين، من جنسيّات مختلفة، عبر تركيا، بتغطية أميركية ومساعدة من بعض وكلائها من الدّول العربيّة.

عندما استشعرت روسيا النتائج التي ستترتّب على هذه الحرب، قرّرت في نهاية العام 2015 التدخّل فيها إلى جانب الدّولة السورية، ضمن مبادئها الرافضة تغيير الأنظمة بالقوّة والمخالف للقانون الدّولي، وإدراكها المخاطر الناجمة عن تمدّد الإرهابيين والفكر المتطرّف، إضافةً إلى حماية مصالحها.

وكما استفادت سوريا من الدعم السياسي والعسكري بالتدخل الروسي في الحرب ووقف انتشار الإرهاب على أراضيها، حصلت روسيا في المقابل على الكثير من الامتيازات والمصالح، فوسّعت نفوذها وهيبتها من جديد، وحَمت نفسها من المدّ الإسلامي المتطرف ووصول الإرهابيين إلى أراضيها وإلى دول العالم.

وقد حصلت على قاعدة بحريَّة لها في طرطوس المطلة على المتوسط، كما حصلت على أكثر من قاعدة جوية، أهمها حميميم، إضافة إلى الكثير من الاستثمارات المهمة، وهو ما مكَّنها لاحقاً من الوصول إلى شواطئ ليبيا المطلة على جنوب القارة الأوروبية.

أمّا الولايات المتحدة الأميركية التي احتلّت قواتها بعضاً من الشرق السوري، فقد فشلت فشلاً ذريعاً في إسقاط الدولة السورية وتغيير نظامها، لكن لا شكَّ في أنها نجحت مع عملائها في تأجيج الحرب، وتدمير البنية التحتية في أماكن عديدة منها، وسرقة ثرواتها النفطية، ومنعت معظم الدول العربية من التعامل معها، لزيادة الضغط عليها، لتحقيق مطالبها التي سبق أن حاول وزير خارجيتها السابق تحقيقها في العام 2003.

أما تركيا، ومهما علا صوتها، فستبقى الحلقة الأضعف بين صراع القيصرين في بلاد الشمس سوريا، فإردوغان الإخواني يحلم بعودة السلطنة العثمانية بعد انقضاء مئة عام (1920) على معاهدة سيفر، ليعيد توسّع بلاده من جديد تحت راية الإسلام، معتقداً أنه سيتمكَّن من الاستمرار في أهدافه الاستعمارية التوسعية من خلال إنشاء قاعدة له في قطر والصومال وغزوه ليبيا.

ويبدو أن تركيا ستكون الخاسر الأكبر في هذه الحرب، إذ إنَّ معظم الدول العربية ترفض سلوك إردوغان الإخواني التوسّعي، كما أن الدول الأوروبية أصبحت تنبذه وتشمئزّ منه، بعد تورطه بالإرهاب ونشره الفكر المتطرف، وتهديده بورقة اللاجئين في كل من سوريا وليبيا، وهو ما يبشّر بسقوطه قريباً، حتى إن تعاون تركيا مع روسيا التي لا تكن له أي ودّ، تقتضيه المصالح السياسية المؤقتة.

أما الجمهورية الإسلاميّة، فقد أعلنت منذ بداية الأحداث دعمها سوريا سياسياً وعسكرياً ومالياً. وتعتبر إيران سقوط الدولة السورية خطراً على أمنها القومي والمنطقة. وقد تمثل الدعم الإيراني لسوريا في الإمداد بالوسائل التكنولوجية والأسلحة والمدربين العسكريين وتقديم المشورة والمعلومات العسكريّة.

ما هو قانون قيصر؟
على الرغم من الضجيج الهائل الذي ناله هذا القانون الأميركي، لكنَّ تأثيره يبقى محدوداً في الاقتصاد السوري، وحتى اللبناني، فالاقتصاد السوري يعاني منذ نصف قرن تقريباً من عشرات العقوبات عليه، ومن دول مختلفة، فسوريا معاقبة من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، إضافة إلى دول أخرى، حتى إن الدول التي لم تفرض عليها عقوبات لم تتمكّن من التعامل معها كما يجب.

ويهدف هذا القانون في ظاهره إلى الضّغط على سوريا، وفق الرؤية الأميركية، لحماية الشعب السوري، وتشجيع التسوية السياسية وإقرارها، ومحاسبة منتهكي حقوق الإنسان، رغم أن العقوبات التي فرضتها هذه الدول على سوريا هي في حد ذاتها جرائم ضدّ الإنسانية، إذ إنها تهدف إلى الحد من حرية انتقال المواطنين السوريين وتجويعهم وإفقارهم، وتخريب البنى التحتية في بلادهم، والضّغط عليهم.

ويلاحظ على هذا القانون أنه في الوقت الذي يفرض عقوبات على الأفراد والمؤسّسات الأجنبية التي تقيم علاقات أو صفقات تجارية مؤثرة مع النظام السوري، إلا أنه يمنح رئيس الولايات المتحدة الأميركية الحق بأن يعطّله إذا أراد، كما أنه أرفق توقيع العقوبات على الأفراد والمؤسَّسات المتعاملة مع الدولة السورية في علاقاتها التجارية بعبارة مهمة جداً، وهي “علاقات تجارية مؤثرة”، أي أنه يمنح الرئيس الأميركي الحقّ باعتبار العملية التجارية مؤثرة، فيوقع العقوبات، أو غير مؤثرة، كما يخوله تعطيل بعض هذه العقوبات أو إيقافها كلّها، إذا رأى في ذلك مصلحة أميركية.

إنَّ قانون قيصر لم يكن السَّبب في الأزمة الاقتصاديَّة التي تعاني منها البلاد، وإنما أحد مؤثراتها، فهناك عوامل أخرى أثَّرت في اقتصاد البلاد، ومنها الحرب القائمة منذ 9 سنوات، وما نتج منها من تدمير للبنية التحتية، وسرقة ثرواتها ومصانعها، وما خلفته من انتشار للفساد وعدم الاستفادة من الكفاءات ووضعها في المكان المناسب، لكن العامل الأهم الذي أثر في الاقتصاد السوري هو الارتباط الكبير بين اقتصاد البلدين، فعندما حصلت الأزمة المالية في لبنان، والتي ساهمت الولايات المتحدة في وقوعها، تأثرت سوريا بشكل مباشر بها، بسبب اعتمادها على المصارف اللبنانية في عملياتها التجارية، فكثير من التجار السوريين الذين أودعوا مبالغ ضخمة في البنوك اللبنانية، لم يعد باستطاعتهم استردادها، ما أثر في ملاءتهم المالية وتجميد أنشطتهم التجارية.

كما أنَّ أزمات أخرى طرأت على سوريا أدت إلى ازدياد سوء الوضع الاقتصادي، ومن ذلك الآثار التي ترتّبت على انتشار فيروس كورونا، وتقييد عمليات التحويل (منذ ما قبل قيصر)، وحدوث خلافات اقتصادية داخلية، ومضاربات على العملة، وحالات فساد كبيرة، أدَّت جميعها في النهاية إلى انتشار حالة الخوف عند المواطنين والتجّار وتجميد حركة رؤوس الأموال.

هذا القانون وما سبقه من عقوبات اقتصاديَّة مطبقة على سوريا، يعتبر في كل المقاييس جريمة بحق الإنسانية، فمن المعروف أن العقوبات الاقتصادية لا تنال عادةً من الأنظمة الحاكمة، وإنما تستهدف المواطنين الذين يتأثرون بها بشكل مباشر، ومن ذلك منع المواطنين السوريين من الحصول على تأشيرة دخول إلى معظم دول العالم، وتهديد الدول التي يمكن أن تتعاون مع سوريا اقتصادياً، وهو يؤدي في النهاية إلى إفقار المواطن وتجويعه، ومنعه من الوصول الى الخدمات والمتطلبات الأساسية للحياة، مثل حصوله على الطعام المناسب والدواء والطبابة والتعليم والماء والكهرباء… ولذلك، القول إن قانون قيصر هو المسؤول عن الوضع الاقتصادي في البلاد هو قول خاطئ ويحمل الكثير من المغالاة.

يقول السفير الأميركي لسوريا أن لا مشكلة مع النظام السوري، لكن المشكلة تكمن في تقويم سلوكه، وهذا يعني، من وجهة نظره، أن تشديد الخناق على هذا البلد، سيغير سلوك النظام ويدفعه إلى طاولة التنازلات، لكنّ ممثل الرئيس بوتين في سوريا وسفيرها أعلنا أنّ من المستحيل تحطيم بلديهما بالإرهاب الاقتصادي، وأن هذه المحاولات ستفشل مثلما فشلت محاولات فرض الإرادة الأجنبيّة بقوة السلاح على سوريا، وأن روسيا لن تترك سوريا في هذه الأيام العصيبة، وتعتزم مواصلة التّعاون معها حول جميع القضايا حتى استكمال معالجتها.

لذلك، لا بدّ من التذكير بأن العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية منذ أكثر من 7 عقود، لم تمنعها من حيازة السلاح النووي، كما لم تنجح العقوبات بالإطاحة بنظام مادورو في فنزويلا، ولا بالنظام في إيران وكوبا، ولا في تغيير سلوكهم.

في النهاية، يمكن أن نخلص إلى حقيقة أن هذا القانون لا يمسّ سوريا بقدر ما يمسّ شركاءها، فهو يهدف إلى وقف مدّ النفوذ الروسي والإيراني في المنطقة قبل كلّ شيء، وبالتالي منعهما من الاستفادة من مكاسب إعادة الإعمار والحد من المساعدة في عملية التسوية في البلاد. ولولا ذلك، لجاءت الولايات المتحدة وعرضت عليهما الإغراءات والحوافز لوقف مساعدتهما لسوريا.

تعلم الولايات المتحدة الأميركية أنّ استمرار الوضع على هذا الحال قد يشعل المنطقة بحروب أهلية أو طائفية مدمّرة ستطال الجميع، وستشعل المنطقة من جديد بانتفاضة فلسطينية ثالثة تؤدي إلى انفلات غير قابل للسيطرة في الأراضي المحتلة وغيرها، ما يهدد السلم والأمن الدوليين، وبالتالي يهدد وكلاءها في المنطقة، فهل هي قادرة على الاستمرار في ألعابها من دون جدوى، أو أن الدول المعنية في المنطقة ستكون قادرة على استرداد حقوقها، ولو بعد حين؟

الميادين

Visits: 0

ADVERTISEMENT

ذات صلة ، مقالات

التالي

من منشوراتنا

آخر ما نشرنا