واشنطن من الحروب العسكرية والتجارية إلى حروب التفاوض والحل السياسي

المهندس: ميشيل كلاغاصي
كانت مدة ربع قرن بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي كافية لتفردها بالقيادة والهيمنة على العالم ولإنتقالها نحو فتح باب السرداب الكبير وشن هجومها العسكري على أعدائها وأصدقائها , وكانت شرارة البداية بأن صفعت نفسها فيما تسمى أحداث أيلول الشهيرة 2001 , وانطلقت بكامل القسوة والغطرسة لتفتح الباب تلو الباب وتتقدم داخل سرداب المخطط الجهنمي للدولة الأمريكية العميقة وأصحاب المشروع الصهيوني الكبير.
فمن الهجوم على أفغانستان وتنظيم القاعدة إلى الهجوم على الإسلام بإعتراف الرئيس جورج بوش الأب , وزحفها نحو أوروبا وأمريكا اللاتينية وغزوها اليميني , فيما اتجهت نحو العالم العربي والشرق الأوسط , ودخلت العراق واسقطت قيادته ونظامه السياسي وجيشه الوطني وبناه التحتية في 2003, وتابعت تقدمها في السرداب نحو أبواب “الربيع العربي” , ومن الباب المصري إلى التونسي إلى الليبي واللبناني وصولاً إلى الباب السوري , لم تكن تنقصها الأدوات فمصانعها لم تتوقف عن إنتاج النسخ الإرهابية الجديدة “داعش والنصرة” وإعادة إنعاش القديمة منها “الإخوان المسلمين” , وكافة المجاميع الإرهابية التي تدور في فلكهم تحت عشرات التسميات …. وبدأ التسخين والبحث عن حصاد النتائج الأولية.
الأنظمة تتغير … فقد تم دحر نظام الرئيس حسني مبارك , وتمت سرقة ثورة المصريين , وجاءت حكومة الرئيس السيسي بلا حول ولا قوة , وقُتل الرئيس القذافي في ليبيا واستباح تنظيم “داعش” البلاد , وبدأت الفوضى والإنقسام الداخلي والإقليمي والدولي , فيما طار الرئيس التونسي في طائرة ليترك البلاد تواجه المجهول , وواجه لبنان عاصفةً إسرائيلية في عدوان حرب تموز 2006 , لكن مقاومته حولت العدوان إلى مناسبة للإنتصار التاريخي , فيما حاول الرئيس السوري إنقاذ بلاده وشعبه وتفادي الطوفان , واضطر لحمل بندقيته في 2012 بعدما قرر المواجهة والصمود وعدم الإستسلام .
فيما تاهت الأنظمة الخليجية ما بين تمويل وتسليح المجاميع الإرهابية التي تقاتل في جميع الساحات والجبهات خصوصاً في سوريا , لإرضاء الوحش الأمريكي , وللحفاظ على عروشها , فكان القمع السعودي لثورة الشعب البحريني , والهيمنة على القرار المصري , والتدخل في العراق , والعدوان العسكري على اليمن , والإنقسام الخليجي ما بين المحورين الوهابي والإخواني , ومقتل الخاشقجي وحصار قطر , والعداء لإيران….إلخ.
لم يتوقف العبور الأمريكي داخل السرداب , واستمر فتح الأبواب للوصول إلى موسكو وبكين وبيونغ يانغ وطهران وكاراكاس , بوصفها دول قررت الصمود والمواجهة ومقاومة المشروع الصهيو-أمريكي.
من المؤكد أن صمود الرئيس بشار الأسد والجيش والشعب العربي السوري ولأربع سنوات وحدهم في مواجهة عشرات الاّلاف من الإرهابيين , ساعد موسكو والصين والكثيرين على قراءة المخطط والخطر الكبير , وشجعهم على إتخاذ قرار المواجهة …
واعتقدت واشنطن بأن شيئاً لن يوقفها , لكن المفاجئات بإنتصارالمقاومة اللبنانية , وصلابة بعض الفصائل الفلسطينية في غزة , وما أظهرته المقاومة العراقية في الحشد الشعبي وكافة فصائل المقاومة هناك , بالإضافة لمواقف طهران ودعمها اللامحدود لوقف المد الصهيوني والأمريكي عبر سراديب الموت , بالإضافة إلى الدعم الروسي والصيني لسوريا , دفع واشنطن إلى المزيد من المراهنة على قوتها العسكرية وجحافل إرهابييها , لكنها أدركت استحالة المواجهة العسكرية , فما أظهرته موسكو من علو كعب قدراتها العسكرية وكذلك طهران وبيونغ يانغ وبكين , فكان لابد لها أن تعيد التفكير في سلوكها واستراتيجيتها.
وقررت تحويل حروبها العسكرية إلى حروب إقتصادية تجارية , بالتوازي مع العقوبات التي تفرضها يمنة ويسرة , الأمر الذي اقتضى مع رحيل باراك أوباما , الإتيان بدونالد ترامب – رجل الصفقات – , لكنه نكس العهود وتراجع عن عشرات الصفقات والمعاهدات , إذ تراجع عن الإتفاق النووي الإيراني وإتفاقية المناخ وإتفاقية ستارت3 مع موسكو ….إلخ.
تابع الرئيس ترامب شق طريقه داخل السرداب رغم الصعوبات , فتنظيم داعش ينهار على يد السوريين والعراقيين , وكاد ترامب نفسه يعلن الإنتصار عليه وإغلاق صفحته .. فيما هزمت وتفككت عشرات المجاميع الإرهابية التابعة للمحور الوهابي , وبدأ زعيم جبهة النصرة الإرهابي محمد الجولاني التفكير بالتحول إلى صفوف المعارضة السياسية , ولم يعد لهم أي أفق للإستمرار … حتى ميليشيات “قسد” الإرهابية بدأت تتحسس أبخرة الغضب الشعبي السوري تتصاعد في وجهها , ولم يعد بإمكان واشنطن حمايتها أو تغطية جرائمها , وأصبحت على مقربة من النهاية .
كان لا بد لترامب أن يرحل كي تتمكن دولته العميقة من السيطرة على إنزلاقها وضعفها على كافة الجبهات الساخنة , فقد منيت بهزائم عسكرية كبرى , وما تعرضت له من ذل في قاعدة عين الأسد في العراق خير دليل , في حين فقد التحالف الخليجي مواده اللاحمة , وبدأت السعودية تأن تحت ضربات المقاومة اليمنية , ولم تعد الولايات المتحدة قادرة على دعمها وحمايتها , وحماية نفسها وجنودها وقواعدها في المنطقة , بدءاً من سوريا وصولاً إلى اليمن .
في الوقت الذي قرأت فيه واشنطن عدم جدوى حروبها الإقتصادية , على الرغم من الأذى الذي ألحقته بالإقتصاد السوري واليمني والليبي واللبناني والعراقي والإيراني والروسي والصيني والفنزويلي … إلاّ أن تلك الدول وعبر تكاتفها وصمود قادتها وحكوماتها وشعوبها , استطاعت إبتكار بعض الحلول والبدائل , وبدأت هذه الحروب تفرض وطأتها على الولايات المتحدة نفسها مع ضعف وتراجع إقتصادها … فكان لا بد لها من تغيير سلوكها واستراتيجيتها ثانيةً …
وكان لا بد لترامب أن يرحل , والإتجاه مع جو بايدن نحو الخداع  من بوابة نسف سياسة ترامب , فالدولة العميقة لا تقبل الهزيمة والتراجع وفق خطٍ معاكس لسيرها داخل السرداب …
ومع مجيء الرئيس بايدن والوزير بلينكن , أعلنت واشنطن إمكانية العودة إلى الإتفاق النووي الإيراني , وإلى إتفاقية ستارت3 مع روسيا والمناخ مع أوروبا , ووقف الحرب على اليمن , وبحثها عن الحلول السياسية لإنهاء الحرب في سوريا , وأنها تتخلى عن حماية لصوص الموارد النفطية في شمال شرق سوريا , والإلتزام بمكافحة تنظيم داعش الإرهابي فقط .. وتبدو قريبة من إعلان تخليها عن تنظيم “قسد” الإرهابي الإنفصالي , إذ يقول ويليام روباك المبعوث الأميركي السابق: “قدمنا مساعدات عسكرية لتعزيز دور”قسد” ضد “داعش” وليس للسيطرة على شمال شرقي سوريا” , بالإضافة إلى انسحاب القوات الأمريكية بالأمس وبشكل كامل من صوامع تل علو في اليعربية بريف الحسكة الشرقي.
يخطئ من يعتقد بأنها ستنحو منحى السلام , وبأنها ستغادر السرداب وتتراجع تباعاً من الباب الأخير إلى الذي قبله وقبله … ونراها على العكس تحاول التقدم أكثر فأكثر , عبر محاولة جني قطاف حروبها العسكرية والتجارية الإقتصادية , والإمساك بدفاتر العقوبات , والتقدم نحو حروبٍ جديدة هي حروب التفاوض والولوج إلى داخل الأنظمة “العنيدة” التي صمدت ولم تنهار, وتعتقد بأنها قادرة على التوصل إلى إتفاقٍ نووي جديد مع طهران , واستغلال العقوبات والمعارضات الداخلية في روسيا والصين وفنزويلا واليمن والعراق ولبنان وليبيا, والولوج إلى داخل بنية “الحل السياسي” في سوريا , بالإضافة إلى تمسكها بتجميد الحلول العسكرية عبر تجميد الجبهات بحسب الخرائط العسكرية والسياسية والإقتصادية الحالية .
إن سعيها لدعم ما تسمى بـ “المعارضات” داخل دول أعدائها , وتصريحاتها حول “تجديد البحث عن حلول سياسية”, لهو دليل قاطع على إنتقالها إلى حروب الحلول السياسية المزعومة , ودليل إضافي على استمرارها بالسير داخل عمق السرداب وليس للخروج منه , في محاولة لإعادة التموضع وليس لإحلال السلام

Visits: 0

ADVERTISEMENT

ذات صلة ، مقالات

التالي

من منشوراتنا

آخر ما نشرنا