ت: وائل خليفة
ثمة غير حافز يدعوك للتأمل الطويل وأنت تُتابع أعمال الفنان صافي أحمد في الجناح رقم 19في معرض الصناعات والحرف اليدوية في معرض دمشق الدولي، ليس لشواغل لوحات هذا الفنان الذي لم يعر كثيراً أمر التجديد في موضوعات اللوحة اهتماماً، أو الذهاب بعيداً في الكشف عن أغراض جديدة لم تنشغل بها اللوحة السورية المُعاصرة، فصافي بقي يُنوّع في لوحاته على ما تناولته الفنون التشكيلية السورية على اختلافها من مشاهد واقعية نافست من خلالها دقة الكاميرا.
تكنيك مختلف
ما يدفع للتأمل في لوحات صافي أحمد الذي يُقدم إنجازه الفني منذ ما يُقارب العشر سنوات هو حوامل اللوحة والمادة التي يُنجزُ من خلالها تكويناته على تلك الحوامل بحيث تصير هي – الحوامل والمادة المُشكلة للتكاوين التشكيلية – الحالة الإبداعية التي يتناولها هذا الفنان بكثير من الصبر الطويل والأناة التي تصل حد الإعجاز.
حوامل لوحة صافي تتنوع بين الألواح الخشبية والزجاج وقليل من الخامات البيضاء القماشية التي يُشكل على سطوحها ما يُشبه «كروكي» في البداية لموضوع لوحته التي ستستغرق معه زمنياً بعد ذلك بين ثلاثة وسبعة أشهر، وأحياناً تمتدُّ لما يُقارب السنة. أمّا لماذا كل هذه المدة الطويلة فذلك لأن صافي يُنجز تلك التشكيلات الفنية بعيداً عن الفرشاة وحتى أدوات النحت، لأنّ لوحة هذا الفنان هي مزيج بين النحت والتصوير، ولكنه لا يستخدم مواد أو أدوات أي من الفنين السابقين، وإنما كانت مواده من حبات الأرز ولحاء الأشجار وبعض الحبوب الأخرى.. ولكم أن تتخيلوا لوحة فنية يحتاج فيها الفنان خمسين ألفاً إلى مئة وخمسين ألف حبة أرز لإنجازها، وهنا وضعية حبة الأرز على اللوحة هي نفسها تُضيف تكويناً جديداً في كل وضعية على سطح اللوحة بل وتقدم قراءة جديدة، كأن توضع أفقية على سبيل المثال أو مائلة أو حتى في أصعب وضعياتها أي وقوفاً عمودياً ليُعطي سطحاً نافراً أقرب إلى شغل «الرولييف»، ومن ثم تأتي عملية التلوين مرة قبل لصق الحبة في مسارها التشكيلي على سطح اللوحة، ومرةً أخرى بعد صف حبوب الأرز وتكون أخذت كل تشكيلاتها المُقترحة.
حبات الأرز
بمئات الآلاف من حبات الأرز التي يُعالجها كيمائياً ويحفظها بمواد لديمومة طويلة استطاع صافي أحمد أن يُقدّم ما يُشبه التحدي لخامة – حبات الأرز- ويدلنا على الإمكانية التي لا تعرفُ حدوداً في استنطاق مادة كانت لأغراض غذائية هضمية، ومن ثمّ كانت عملية انزياحها من غاياتها ومساراتها النفعية الزائلة والمؤقتة المُعتادة إلى فنون بصرية جمالية.
مثل فنون كهذه تسعى لإعادة تدوير مواد مختلفة كانت مهجورة أو متروكة، أو كانت تُستخدم لغايات بعيدة عن استخدامها الجديد؛ ثمة من النقاد من يطلق عليها فن الناييف «naïve» أي اللافن، أو قل الفن العفوي الذي لا يتبع قواعد محددة، وإنما الفنان يرسل نفسه على سجيتها بعيداً عن القواعد.
بهذا ال«ناييف» قدم صافي أحمد الكثير من المعالم التي هي في أغلب الأوقات ملء العين والبصر، بجماليات جديدة كالجامع الأموي في دمشق، ومبنى الكرملين في موسكو وحتى التنين الصيني، إضافةً للكثير من اللوحات الحروفية. أما لماذا كانت مثل هذه الصروح أثيرة لنفسه وبذل لإنجازها كل هذا الوقت الطويل من الجهد والزمن، فيذكر صافي لـ«تشرين»: أما عن الجامع الأموي فللإشارة إلى جهة الإسلام الصحيح الذي طالما كان يتجه صوب السمو من تلك المآذن العتيقة التي هي نفسها تحفة عمرانية شاهدة على عوادي الزمن والناس والوقائع الكثيرة من حولها، وأما مبنى الكرملين الروسي والتنين الصيني، فذلك يأتي رداً للجميل ونوعاً من الشكر لدولتين وقفتا إلى جانب الشعب السوري الذي كان قاب قوسين من الإبادة الكاملة على يد طيور الظلام. وأما اللوحات الحروفية التي كانت تجسيداً لبعض آيات من القرآن الكريم ولاسيما الفاتحة، فقد برز هنا شغل الفنان التشكيلي ولاسيما في التأويلات الكثيرة للحروف والشكل الدائري الذي شكّل من خلاله تكاوينه وما ترمز إليه الدائرة من راحة وطمأنينة التي يُفجرها الخط المنحني المستدير، والاستدارة التي هي حالة سُرمدية دالة في كل فن على فطرة إيمانية، ومن ثم كتله الأخرى على سطح اللوحة واستطالات الحروف وتلويّها وانحناءاتها وغير ذلك الكثير يُعطي أكثر من قراءة تُغني اللوحة وتزيد في تعدد مجازاتها.
كلمة وحبة أرز
في النص السردي؛ لكلّ كلمة، أو تركيب لغوي مكانه المناسب لإبداع النص، كذلك في لوحة صافي أحمد حيث لكلّ حبة أرز مكانها المُناسب في اللوحة التشكيلية، يغوص في ذاكرة المكان السوري العتيق وفي زواريب المثيولوجيا البعيدة ليلتقط حالات لايزال لها حضورها ناسجاً من كل تشكيلاته الفنية وبحس إنساني مُدهش وهاجس إبداعي لروح مادة غذائية طالما شكلت برغم أبعادها الصغيرة «واحد ميليمتر ربما اثنين ميليمتر» مساحة شاسعة للتحدي من كتابة الأسماء والأشعار عليها كما يفعل الكثير من الحرفيين في شوارع دمشق العتيقة إلى استخدام حبة الأرز نفسها ليُشكّل من خلالها أعمالاً فنية كما في حالة صافي أحمد الذي يُخيل لي أنه الوحيد في العالم العربي الذي يُنجز مشغولاته الفنية بهذه الطريقة وبهذا التكنيك.
Views: 3