أسامة الدليل
وقع ورثة شبه الجزيرة العربية في المحظور وأشعلوا الخراب في جغرافيا رحلة الشتاء والصيف، تلك النعمة التي منَّ الله بها على أسلافهم لأكثر من ألفي سنة قبل أن يتدفق النفط من تحت أقدامهم وتتحول خريطتهم السياسية من وديان وهضاب وسلاسل جبلية إلى خطوط محض مرسومة على وجه البترودولار الأخضر. الرحلة كانت إلى اليمن شتاء وإلى سوريا الكبرى صيفاً وكانت التجارة بين شبه الجزيرة وهاتين الحضارتين هي مطعم الناس ومشربهم وكل ما يملكون، وتاريخ شبه جزيرة العرب يؤكد بوضوح أن دروبها وشعابها كانت ممراً محضاً للتجارة من الشمال والجنوب والعكس، الاتصال بالحضارات كان حكراً على اليمن وسورية والعراق الحالي، ولم يكن هناك من ميراث يدعيه أهل الحجاز سوى دعاء إبراهيم عليه السلام بأن يجعل الله أفئدة من الناس تهوي إليهم، ثم أنارت السماء ظلماتهم بسورة قريش في القرآن الكريم الذي ذكر رحلة الشتاء والصيف وأتبعها مباشرة بالأمر الإلهي: «فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف».
الآن ينفق أصحاب البترودولار بالمليارات لشراء السلاح والذخائر والصواريخ والقنابل العنقودية لإسقاطها –بأنفسهم أو بوساطة أجراء- على رؤوس اليمنيين حتى بلغ عدد ضحاياهم ما يربو فوق الخمسين ألف يمنياً ما بين قتيل وجريح وباتت المجاعة هي السماء التي تظللهم.. أي إنهم أفقدوا أهل اليمن الطعام والأمن، ومن قبل ذلك كانت صفقات السلاح بعشرات المليارات تذهب للإرهاب في سورية للغرض ذاته. وليست ببعيدة، تصريحات وزير الخارجية السعودي المزمن الراحل سعود الفيصل التي كانت تجهر برغبة المملكة في تسليح الشعب السوري كله لقتال نظامه السياسي، والنتيجة فقدان الأمن والجوع من بعد الشبع ما أفضى لنزوح مئات الآلاف عن ديارهم. السؤال: ما الذي يواجهه الورثة في العدوان على جغرافيا رحلة الشتاء والصيف، إن لم يكن الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف؟ قد يبدو التناول هنا في سياق يغاير المنهج الجيوسياسي الذي اعتدت على استخدامه في تحليل صراعات المنطقة لكنني في الحقيقة لم أتطرف في عملية وضع المعطيات في سياقها، لأن إقحام الدين ومفرداته في الصراع الجيوسياسي بين الأنظمة الملكية والنظم الجمهورية في عالمنا العربي كان حاضراً في المشهد منذ بدايات أكذوبة ثورات الربيع العربي, ودعونا نلقي نظرة على متغير عجيب أعقب الانفجارين الاجتماعيين الكبيرين في بداية 2011 في تونس ومصر، إذ فجأة ومن دون داع وجه مجلس التعاون الخليجي الدعوة للأردن والمغرب للانضمام إليه في نيسان من العام المشار إليه، لقد بدا الأمر وكأن الملكيات العربية في شبه الجزيرة تتكتل في وجه موجة تغيير حادة تأتيهم من شمال أفريقيا، وبسرعة فائقة شكلوا وفداً في سياق الجامعة العربية بدعم قطري واضح لزيارة باريس واستجلاب حلف شمال الأطلنطي للقضاء عسكرياً على الجمهورية الليبية لمجرد رد الاعتبار للعلم الملكي الليبي، والاعتذار للملك السنوسي وورثته، والإجهاز على أهم بلدان شمال أفريقيا من حيث الثروة والمكانة الاستراتيجية. ولا أبالغ إذا ما أقررت أن ما حدث في ليبيا شكل ولا يزال تهديداً استراتيجياً خطيراً للنظم الجمهورية في مصر وتونس والجزائر حتى وقت كتابة هذه السطور، حدث ذلك بالتزامن مع إرسال قوات درع الجزيرة إلى البحرين، حيث لا تزال، وللعام السادس على التوالي، تقوم القوات السعودية بحماية نظام ملكي من تبعات تظاهرات، لم تنقطع أبداً، تطالب بالعدالة الاجتماعية، بينما يتم تسويقها للعالم على أساس أنها صراع بين مذهبين دينيين.
دعوة مجلس التعاون للأردن والمغرب للانضمام إليه كان حدثاً مستغرباً خاصة في ظل الرفض المزمن لقبول عضوية العراق الذي يطل على الخليج، ورفض عضوية اليمن أقرب الدول لأعضاء المجلس «السعودية وسلطنة عمان»، لقد تطور الأمر بعد ذلك في القمة التشاورية الثالثة عشرة للمجلس في شباط 2013 إلى شراكة استراتيجية ما بين تجمع الملكيات الخليجي والأردن الذي يشرف على حدود سورية والكيان الصهيوني، ليكون للمجلس تماس جيوسياسي مع الجنوب السوري وشرق «إسرائيل».. الشراكة الاستراتيجية حلت محل العضوية أيضاً مع المغرب الذي هو أقرب جيوسياسياً إلى أوروبا، وهو أصلاً في غنى عن أي دعم خليجي في إدارة علاقاته مع القوى السياسية الداخلية.. قامت الأنظمة الملكية على التوريث بموجب الحق الإلهي الموجب للبيعة، بينما قامت النظم الجمهورية في العالم العربي بشرعية الانتخاب، لذلك لا نستغرب كثيراً وصف الإرهابيين الممولين ملكياً للجيوش العربية الجمهورية بجملة: «جيش الردة». إن هذا الوصف يتردد كثيراً حتى في مواجهة القوات المسلحة المصرية من قبل دواعش سيناء وجماعة الإخوان الإرهابية، وهنا نصل للمتغير الثاني: بعد حزيران 2014 واجتياح «داعش» للموصل, تطور الأمر بسرعة بالغة للدعوة لتكوين تحالف عسكري مذهبي لمواجهة إيران لا لمواجهة «داعش»، وقد تمت دعوة باكستان إليه وإن كانت الأخيرة رفضت بحسم، وما كان إلحاح السعودية في ضم جزيرتي تيران وصنافير إلى مضيق خليج العقبة إلا رغبة في الحلول في سياق كامب ديفيد بدلاً من مصر –فيما يخص الجزيرتين– ومن ثم إيجاد أرضية لضم «إسرائيل» للتحالف الملكي ضد إيران.. وهذا بحذافيره قد تحقق بما في ذلك سياق المناورات الجوية الإماراتية المشتركة مع الطيران الإسرائيلي العامين الماضي والحالي.
المؤكد أن الصراع بين الملكيات والنظم الجمهورية كان كامناً تحت جلد العروبة منذ منتصف القرن الماضي، وأن استخدام الدين فيه كان جوهرياً. وإن أخطر تجلياته كان في إفشال تجربة الجمهورية العربية المتحدة, ومن بعدها في قتال الجيش المصري لطرد الملكية من اليمن ومعهم الإنجليز من قاعدة عدن، وكان الرد موجعاً في تورط الملكيات العربية في ليبيا والسعودية لدعم العدوان على مصر وسورية من جديد في حزيران 1967. كانت تلك هي الحقبة التي صدرت فيها صحيفة عكاظ السعودية بالمانشيت الأحمر العريض: «عبد الناصر كافر!». اليوم يحرقون جغرافيا رحلة الشتاء والصيف وهم يعرفون يقيناً أنه بحلول 2030 سيبدأ أفول عصر النفط ولن يكون لهم من مخرج للطعام والأمن سوى التجارة مع الشمال والجنوب، كما كانوا يفعلون منذ قرون بعيدة، هذا هو حكم الجيوبوليتيك على هذه الأنظمة الملكية الصحراوية التي ظلت سنوات طوالاً تبيع برميل النفط (159 لتراً) بخمسين دولاراً ليستوردوا برميل البيبسي كولا من الغرب «الكافر» بخمسة وثمانين دولارا!
كاتب مصري
Discussion about this post