المساء يهبط بمظلاته الباردة على دمشق السورية المدينة الشامخة غير العابئة بتقلبات الطبيعة الرعناء وهي منشغلة بما يحيق بها من بلاء عالمي عمره آلاف السنوات وفي كل مرة لا يأكل الطغاة حصرما ولا عنبا, وهي مثل تفاحة بشرية محمرة الوجنات من لسعات الرياح القارصة لكنها كانت تحمل في عينيها مشاعل من بريق وهاج يخطف الأبصار وليد حب مجنون بشاب شامخ بقامته الى الغيوم بينما أكتاف متوثبة للقفز الى السماء فوقهما رأس يحمل شعرا اسود كثيفا من الأمام والوجه الخمري الجميل الملامح والقسمات تسكنه قلاع من ذكاء حاد تؤكده عينان صغيرتان تقطران قوة ملاحظة وخيلاء ..
وأما الصبية علياء فهي زميلته في العمل الإعلامي وحبيبته التي لأجلها كان لا ينام الا إذا نامت هي وبقي هو يتكلم ويتكلم ولا يسمع منها جواب سوى همسات أنفاسها التي لأجلها يترك سماعة هاتفه الأرضي مفتوحة ويغمض عينه للاسترخاء والاستغراق بالنوم على إيقاع نفسها بأمان .. فجأة عصفت ريح شديدة وهما يتدرجان سوية في عتمات الليل المخيفة باتجاه قلب المدينة وقبل أن يضمها إليه بشدة وقد ارتبكت ذعرا من صوت غضب الرياح كانت سيول من الأمطار تهاجم المدينة الحزينة بسبب الحرب الطويلة رغم معاني الخير التي تكتبها تلك الأمطار على سطور الأرض العطشى بسبب الصيف الحار وشدة استهلاك المياه وقد احتضنت دمشق الكثير من المهجرين من الأرياف وبعض المحافظات في تلك اللحظة صرخت علياء : لقد بردت كثيرا فما كان من الحبيب الوسيم جمال الا أن خلع معطفه الأسود الطويل ووضعه على رأسيهما وضمها بشدة إليه قائلا : أتخشين البرد والمطر وأنا اليوم معك ..انتفضت علياء من صيغة كلامه فهو يجيد التعبير ويحسن إيصال أفكاره بكل سلاسة وتدبير.. فسألته وأنفاسهما تكاد تتوحد قائلة باستغراب : وأنت اليوم معي !!! ماذا تعني يا جمال بذلك ؟ قال بصوت ساحر كالأحلام المخملية التي تضيء لك ألف شمعة وشمعة حين تراودك لتكسر الظلام المتمكن من نفسك ومزاجك إن كنت حزينا أو مكتئبا وقال بهدوء رغم العاصفة المجنونة : لأننا في القريب لن نكون معا … سقطت في ذهولها دفعت المعطف بقوة عن رأسها وقد قفز البرد خارج جسدها الجميل القوام وقالت : لن نكون معا قريبا !!! وبقوة وحزم وإصرار توقف وامسك بيديها وراح يقبلهما بشدة والأمطار تشطف بسرعة مكان كل قبلة ثم قال وقد انسدل شعره الأسود كالليل على حاجبيه وأهدابه الطويلة : أجل يا حبيبتي لأنني قررت الهجرة الى ألمانيا ؟؟ ماذا تقول أيها المجنون قالت وهي ترتعد وتبلع ما يصل الى فمها من مياه الأمطار فأجاب وقد اهتز صوته بشدة تفوق اهتزاز أغصان الأشجار وواجهات المحلات ونوافذ الزجاج : اجل قررت الرحيل فأنا ما عدت قادرا على تحمل المزيد من الخوف ..من هدير المدافع وقذائف الموت … ارتعشت علياء وهي تسحب بقوة يديها من يديه ثم قالت أتريد الهروب والانشقاق يا جمال ؟؟ أتريد هجري والطعن بوعودك لي بأحلى زواج ..قال سريعا ..لا ..ليس الموضوع هكذا عندها تركته وركضت تخترق رسائل المطر التي تصل الأرض بالسماء وقد اقتربت من منزلها وهو يجري خلفها وصوت أقدامه المرتطمة بالسيول تشق ستائر الليل السوداء وما أن وصلت علياء الى المنزل حتى راحت تقرع الباب كالمجنونة المذعورة من شيء ما لتفتح والدتها الباب وهي تقول : ماذا أصابك يا حبيبتي ؟؟؟ أما جمال فقد وقف تحت السماء يستقبل تقلباتها بين برق ورعد ومطر ورياح بكل ارتباك وقد أضاعت كلمات علياء له كل اتزانه والوقار لكنه صمم على الثبات في موقفه دقائق طويلة لعل الحبيبة تنظر إليه من نافذتها شبه المضاءة بشمعة يتيمة ثم تنزل وتدعوه للدخول حتى تتوقف الأمطار ويناقش معها الموضوع بهدوء واتزان لكن الأمر طال وراحت أوصاله ترتعد وأسنانه تصطك بردا واستياء . في اليوم الثاني استكانت ثورة الرياح وهدأت الأمطار بينما بقيت سيالات البرد تحوم في كل مكان ومع ذلك جلست علياء في مقهى صغير وهي ترتدي معطفا اسودا يمنحها مسحات من بهاء وقد عقصت شعرها الأسود الطويل بشكل ساحر لينسحب على بعضه شال صوفي جميل فالجو بارد داخل المقهى الخاوي من الزبائن ووسائل الإنارة والتدفئة الا من شموع متناثرة على الطاولات بينما جلس قبالتها الحبيب جمال بأحلى طلة لكنه كان يبدو مهموما غير حليق الذقن ولا مرصعا شعره بطبقات من الكريمات اللامعة التي تمنحه بالعادة بريقا واسعا الاثنان في حالة صمت كئيب يحتسيان الشاي ويتأملان بعضهما قليلا ثم يشردان طويلا وأخيرا قطعت ذاك الهدوء الحذر علياء بسؤاله قائلة : وهل مازلت مصمما على الهروب؟؟؟ ودمعات أسى كبيرة انهمرت سريعا على الوجنات لتصل الى حيث الشفاه بدأت تتحرك للكلام حيث قال باستنكار : أنا لست بهارب يا علياء ..أنا أحاول البحث حاليا عن الأمان الذي فقدناه والسلام الذي عشناه ..وأين الأمان في زورق تتقاذفه الأمواج بل أين السلام في بلاد لا تعرف فيها إنسان .. وبعيون اختزلت كل ما يعتمل داخله من اضطرابات وقال : علياء أرجوك أن تفهميني ..وهنا نزعت علياء الشال بعصبية عن شعرها الذي انهمر بقوة على كتفيها كشلال سواد وقالت بعصبية :وأنا وحبي ووعودك أيها الوطني الكبير!!!!!!! هنا انفرجت أسارير جمال قليلا عن قبضة آمال ترجمتها العين قبل الفم وقال : وعدي لك لن يتغير سأذهب الى ألمانيا واحصل على الإقامة وسأوكل محامي فورا لعقد قراننا ثم اطلب لم الشمل لتأتي إلي يا قمري الدمشقي ..أنا لا أترك بلدي يا جمال ..أتتخلي عني لغاية تأمين حياتنا ومستقبل أطفالنا ؟؟اجل ..ثم أنت من تخليت عني أولا ..عن حكايانا ..عن مرحنا على دروب الوطن ..عن فرحنا بأعياده وبربيعه وأزهاره . امسك جمال بالفنجان وسكب ما فيه من شاي دفعة واحدة في فمه قائلا : هل أنا هكذا يا علياء ؟؟ قالت علياء بإصرار وهي ترتعد كلها : اجل وبالأحرى إنك اليوم بنظري خائن كبير ..قالت هذا ثم نهضت عندها أمسك بيدها بشدة قائلا : علياء أرجوك افهميني ..سحبت علياء يدها منه بعزيمة غير متوقعة وقالت : من يترك وطن وقت حاجته إليه فهو خائن ومن يتخلى عن حبه ووعوده فهو خائن , قالت هذا ثم مدت يدها لتصافحه قائلة : استودعك الآن متمنية لك الوصول بأمان الى وطنك الجديد ثم غادرت سريعا فما كان من جمال الا أن نهض لاحقا بها مناديا بصوت عال : علياء انتظريني فأنا لست بخائن وطني ولا حبي ..صدقيني يا علياء لكن علياء كانت قد غادرت المقهى وانخرطت راكضة وسط الناس.. بعد أيام ليست قليله وعلياء تحتضن أحزانها في قلبها الذي نزف مرارة على ابتعاد جمال عنها وقد سرق فراقه عنها كل نضارتها وحيويتها وبدت وهي في جوارب صوفية سميكة وطاقية شتوية مع شال اسود يشتمل جسدها النحيل كمثل عجوز عجفاء وهي جالسة دائما شاردة تتابع فقط الأخبار لتسمع تقريرا عن قارب مطاطي تضربه عاصفة بحرية على شواطئ تركية يحمل خمسين سوريا وقد لاقى الجميع حتفهم هنا صاحت علياء بصوت امرأة مفجوعة لا شك أن جمال معهم ثم هرعت الى جهاز الكومبيوتر تتفقد المواقع لتقرأ في النهاية اسمه بين الغارقين …آه يا جمال لم قتلتني؟ لماذا ؟؟ ماذا فعلت لك غير اني أحببتك ؟؟ ..الآن من قاع البحر أريد جوابا يا جمال كانت تقول هذا بصوت عال وبنحيب مزق شغاف قلوب أفراد أسرتها وخاصة والدتها التي ركضت واحتضنتها وهي تبكي معها لكن علياء دفعتها عنها فجأة وهي تقول : لا تحزني يا أمي علي فأنا الآن أفضل حالا وغدا سأنزل الى عملي لأتابع الدفاع عن وطني لأن الوطن يا أمي يحتاج الى تضحيات وحبيبي كان ضحية عناده وخوفه من الموت في وطنه..هاهو الموت قد سلبه شبابه في أعماق البحار ..ثم وبعيون دامعة قالت لو بقي هنا ومات معززا في الدفاع عن وطنه لما حزنت عليه كما أنا الآن وفجأة اندفعت ثانية الى حضن أمها وسقطت في دوامة بكاء رفيف قنديل |
Views: 0