قبل عقود من الزمن، كانت قريتي طفلة صغيرة حالمة: بضعة بيوت من الطين، بضع صرخات غضب وحب، وكثير من أغاني الدروب وأعشاش العصافير ورقرقة الجدول وخرير مياه الينابيع. زحفت إليها الحياة، تسللت إلى يومياتها، خدرت واقعها وحاضرها ومستقبلها.
ذات يوم … إنطلقت الجرافات والبلدوزرات والمحادل من المدينة القريبة … وبدأت تغير معالم الطبيعة تزيح صخوراً … تجرف أشجاراً …. تردم مجاري السواقي… تنزع عن عنق قريتي شالها الأخضر وتلبسها قميصاً إسفلتياً أسوداً بارداً.
لقد شقوا إليها طريقاً يربطها بالمدينة ….. نعم لقد سقطت القرية بأسرها في قبضة الحضارة.
قبل الطريق، كان في كل بيت بقرة، كان في كل بيت فائض من حليب ولبن وجبن وقريشة وشنكليس وسمن بلدي، وكان كل بيت تقترب بقرته من الولادة ويبدا حليبها بالتناقص وضرعها بالجفاف، يصبح أهله تحت كفالة ووصاية الجيران والأرقارب، فالحليب واللبن والجبن والشنكليش والسمن البلدي يصل يومياً إلى هذا البيت من فائض إنتاج أبقار الجيران والأقارب.
بعد الطريق، أصبح أهل القرية يقفون أمام بيوتهم صباحاً بانتظار بائع الحليب المغشوش واللبن الرائب بمادة النشاء، أصبح الجبن حموياً (وفي بعض الأحيان فرنسياً أو سويسرياً)، والزبدة دانماركية والسمن تركياً.
قبل الطريق، كان كل بيت ينتج كامل أصناف خضاره وفاكهته، وكانت مؤونة البيت من القمح والعدس والحمص والبرغل والذرة والزيتون والزيت والتبغ والزبيب والتين المجفف من خيرات الأراضي.
بعد الطريق، صارت البندورة أردنية، والخيار بلاستيكياً، والبصل "سلامونياً"، والبطاطا مصرية، والعنب "محرداوياً"، والتفاح جولانياً، والموز صومالياً، والتوت شامياً، والقمح أوكرانياً، والزيت "عفرينياً"…..
قبل الطريق، كان لكل بيت خوابي نبيذه، "كركة" عرقه
بعد الطريق، صار النبيذ اسكوتلنديا والعرق لبنانياً والويسكي فرنسياً والفودكا روسياً.
قبل الطريق،
كانت إذا حلت المواسم، وأردت الحصاد يسبقك إلى حقلك عشرون شاباً ورجلاً من أبناء الجيران والأقارب.
كنت إذا أردت بناء منزل، اجتمعت القرية بقضها وقضيضها رجالها يجبلون التراب ويشيدون الجدران،ونسائها يطهين الطعام للعاملين المتعبين.
كنت إذا أردت تزويج ولدك، زحفت القرية بشيبها وشبابها، صغارها وكبارها، نسائها ورجالها، إلى "مراسح" الدبكة بلا بطاقات دعوة.
كنت إذا فجعت بوفاة عزيز، ماعدت تميز أهل المتوفى عن باقي أهل القرية، فهذا يحفر القبر، وذاك يستقبل المعزين، وآخرون ينصبون صوان العزاء، وغيرهم يجولون بالقهوة المرة.
بعد الطريق أصبح حصاد المواسم بالكراء، بناء المنازل بالمواعيد مع ورشات البناء، حفلات الزفاف ببطاقات الدعوة، والتعازي "بالواتس أب".
قبل الطريق، كانت الفتاة تولد على اسم ابن عمها الذي سبقها، ويكبران ويتزوجان ويعيشان معاً ثلاثين وأربعين وخمسين من السنوات …. وفي كل عام يكبر الحب.
بعد الطريق، أصبح الشاب يختار فتاته، بحسب شهاداتها العملية ووضعها الوظيفي ودخلها الشهري ورشاقتها وأناقتها وشبهها بهيفاء وهبي. وأصحبت الفتاة تختار فتاها بحسب أمواله، ونفوذه، وأسهمه المالية ورشاقته وأناقته وشبهه بتيم حسن…. ويعيشان معاً ثلاث، أربع، خمس سنوات …. وفي كل عام ينقص الحب.
قبل الطريق، متى حل الظلام، أشعلت الفوانيس والسراجات، ودارت جلسات السمر، ورنمت قصائد شعر الأجداد الماجدين وحيكت حكايات الجدات للصغار وطال السهر على البيادر.
بعد الطريق، متى حل الظلام، تنار المصابيح الكهربائية، وينزوي الناس في كسل بيوتهم خلف شاشات تلفزيوناتهم، خلف شاشات حواسيبهم، خلف شاشات أجهزتهم المحمولة، والخلوية.
قبل الطريق، كنت تأتي شيخ القرية حاملاً شكك، وتضرعك، وثقتك، وبعضاً مماتيسر من الأعطيات وتغادره حاملاً يقينك، وسكينتك، وإيمانك، والكثير مما منّ الله.
بعد الطريق، أصبحت تأتي شيخ القرية حاملاً نفاقك وريائك ورفضك والكثير من الأعطيات، وتغادره نفاقك وريائك ورفضك فقط.
قبل الطريق، كان مدرس القرية، يغادر المدرسة في نهاية الدوام ويجول على آباء تلاميذه، مهنئاً أهل التلميذ المجد، ومحرضاً أهل التلميذ الكسول، ومنبهاً أهل التلميذ المشاغب.
بعد الطريق، أصبح مدرس القرية، يكتب رقم هاتفه الخلوي ومواعيد أوقات فراغه على دفتر التلميذ من أجل الدروس الخصوصية.
بعد الطريق، أصبحت الزيارات بين الجيران بمواعيد مسبقة، وحل المشاكل بين الأقارب بالبارودة الروسية، والنميمة على الأصدقاء تتم في أفرع المخابرات.
بعد الطريق، بنيت البيوت الإسمنتية في بيادر القمح، وشيدت المحال التجارية مكان سكائب الخضروات والتبغ، وشقت الطرقات في حقول الزيتون.
ألا لعنة الله على الطريق ……….. ألا لعنة الله على العولمة
المهندس جهاد عيسى .