المُلاسنات والضّرب بالكراسي بين العسكر ومُمثّلي الحِراك المدني “فألٌ سيء” للسّودان.. الدولة يجب أن تكون مدنيّةً خالِصة.. والمجلس العسكري استنفذ أغراضه ومكانه الثّكنات.. والنّموذج الجزائريّ هو الأفضل حتّى الآن
في الانقلابات العسكريّة التي ازدهرت في فترتيّ الخمسينات والسّتينات من القرن الماضي، كانت الجُيوش هي أداة التّغيير الرئيسيّة، وتحت عُنوان واحد، وهو التصدّي للاستعمار ومُؤامراته، وتحرير الأراضي المحتلة، وتعزيز السيادة الوطنيّة، وكانت تتجنّب توصيفها بالانقلاب، والإصرار على أنّها ثورة مدعومة شعبيًّا.
تغيّر الوضع أثناء الموجه الأولى لما يسمّى بثورات الربيع العربي، حيث انتقلت أدوات التّغيير إلى الشّعوب العربيّة التي نجحت بنزولها إلى الشارع والميدان في إطاحة بعض الأنظمة المدنيّة اسمًا والعسكريّة جوهرًا، ونضرب مثلًا بالثورات المصريّة والتونسيّة واليمنيّة، ونستثني السوريّة لأنها لم تنجح في تغيير النّظام، والليبيّة لأنّ إدارة التّغيير كانت طائرات حلف الناتو، وهذا موضوعٌ آخر.
الجديد في الحراكين الشعبيين اللذين انطلقا بقوّةٍ في الجزائر والسودان في الأشهر القليلة الماضية، أنّ هذين الحراكين أو الثورتين، عكستا ظاهرة فريدة من نوعها، تتجسّد في حالةٍ من التّوافق، بل التحالف، بين المؤسستين الشعبيّة والعسكريّة، حيث رضخت الأخيرة للمطالب الشعبيّة، واستسلمت لقُدرتها في التّغيير، وكانت، أيّ المؤسسة العسكريّة، أحد أبرز أدواتها في إطاحة أنظمة ديكتاتوريّة فاسدة، فالإصرار على الدولة المدنيّة الديمقراطيّة هي البديل الوحيد.
إذا كان “تحالف الضرورة” السابق ذكره قد صمد حتى الآن في الجزائر، لأسباب عديدة أبرزها تلبية الجيش لمُعظم شروط ومطالب الحراك الشعبي السلمي الحضاري، فإنّ نظيره في السودان بدأ “يتضعضع” و”يتآكل” لأن المؤسسة العسكريّة السودانيّة تُماطل في تسليم السّلطة، وإقامة دولة مدنيّة على أسس ديمقراطيّة، وتنفرد بالقرار في القضايا الاستراتيجيّة ودون الرجوع لأي مرجعيّة حراكيّة أو مدنيّة.
اليوم خرجت الخلافات بين الطرفين المدني والعسكري إلى السطح، وتحدّثت وكالات أنباء عالميّة عن حدوث اشتباكات بالأيدي بين أعضاء قوى سياسية ممثلة للحراك ونظرائهم في المجلس العسكري، وأكّد شُهود عيان مُلاسنات حادّة، وضرب بالكراسي بين الحاضرين.
الحديث عن الخلافات وأسبابها يطول، وربّما يحتاج إلى مساحةٍ أكبر بكثير من حُدود هذه الزاوية، لكن ما يُمكن قوله إنّ أعضاء المجلس العسكري الذين يحكمون البلاد عمليًّا، لا يُريدون أيّ مُشاركة حقيقيّة بل شكليّة لقِوى الحراك في الحُكم، أو أي تقاسم للسلطة بالتّالي، حيث يصرّون على أن تكون لهم الأغلبيّة في أيّ تشكيل مجلس الحُكم الذي من المُفترض أن يتولّى مسؤوليّة إدارة شؤون الدولة السودانيّة في المرحلة الانتقاليّة.
المجلس العسكري الحالي استغلّ الحراك الشعبي لتنفيذ انقلابه والاستيلاء على السلطة، وأقام تحالفات إقليميّة ودولية لترتيب أوضاعه، وتثبيت حكمه الجديد، ويتلكأ في نقل السلطة إلى حكومة سلطة مدنيّة كاملة، وهذا خطأ وقصر نظر كبير لن يُؤدّي إلا للمزيد من عدم الاستقرار في البلاد، وخُروج الثورة عن طابعها السّلمي الذي تمسّكت به حتّى الآن.
التاريخ لا يجب أن يعود إلى الوراء، والمؤسسة العسكريّة يجب أن يكون دورها حماية البلاد وأمنها، لا أن تقودها إلى الفوضى، خاصّةً بعد أن فشلت، ولأكثر من ثلاثين عامًا في السودان وبعد امتلاكها السلطة المُطلقة.
الحراك السوداني المُبارك يجب أن يستمر حتى تحقيق جميع مطالبه في تكريس الدولة المدنيّة، وإعادة العَسكر، كُل العَسكر، إلى الثّكنات مكانهم الطّبيعي، وإلا فإنّ البلاد ستدخل مرحلةً أكثر خُطورةً من المُلاسنات والضرب بالكراسي الحاليّة، فالشعب السوداني الطيّب المُبدع الخلّاق يستحق أن يحكم نفسه بنفسه، وهو الذي يعُج بالكفاءات في الداخل والخارج.
“رأي اليوم
Views: 4