أمام جُملة الحقائق السياسية والعسكرية التي فرضتها الدولة السورية، وعطفاً على محاولة محور العدوان على سوريا الاستثمار السياسي في ملف إدلب، بات واضحاً أن جزئيات القرار السوري المتعلّق باستكمال تحرير الجغرافية السورية من الإرهاب لا مناص منه، خاصة أن اتفاق سوتشي قد شابه الكثير من التشويش والغموض، إضافة إلى أن الأهداف التركية في سوريا تستدعي تحرّكاً لجهة إطلاق عجلة العمليات العسكرية التكتيكية، ضمن إطار ترتيب الأوراق السياسية بأثرٍ عسكري.
الأهداف الاستراتيجية الواضحة للدولة السورية تؤرق واشنطن وأنقرة على السواء، ولعل الجُهد السوري يتركّز في منع الولايات المتحدة وتركيا من إنشاء وجود عسكري يمكنهما من الاحتفاظ بأوراق ميدانية تترجم مكاسب سياسية، وبالتالي فإن إنهاء ملف إدلب عسكرياً، سيُفضي إلى فتح ملف شرق الفرات، ما يعني أن الأهداف الأميركية والتركية ستدخل في نفقٍ سياسي لا مخرج له، هيّأته الدولة السورية وحلفاؤها للقضاء على المناورات السياسية الأميركية والتركية المتعلّقة بمحاولات فرض واقع عسكري جديد، مع محاولات جمّة للعبَث بالخرائط العسكرية التي هندسها الجيش السوري، ليكون الهجوم العسكري الواسع النطاق الذي بدأه الجيش السوري مع بداية شهر أيار المنصرم، رسالة تتجاوز في أبعادها السياسية والعسكرية اتفاق سوتشي، فالتلكؤ التركي في تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه بين روسيا وتركيا في سوتشي يتطلب الحسم العسكري، وبصرف النظر عن المُماطلة التركية المتعلقة بتفكيك الفصائل الإرهابية في إدلب، هناك مسعىٍ تركي واضح لجهة البحث عن مسار سياسي يكون بمثابة القاسم المشترك مع واشنطن، فالبحث التركي عن اتفاق مع واشنطن بشأن مناطق سيطرة الكرد، وتفعيل نظرية المنطقة الآمنة شرق الفرات، يبتعد كثيراً عن أبجديات اتفاق سوتشي.
ضمن هذه المُعطيات باتت الوقائع واضحة لسوريا وروسيا وإيران، وعليه لا بد في مرحلة أولية من القيام بهجومٍ عسكري تكتيكي، يدخل في إطار المناطق منزوعة السلاح، فروسيا لا تُريد إسقاط جوهر اتفاق سوتشي، لكن وبهذه العمليات العسكرية السورية التي أفضت إلى تحرير مناطق واسعة في ريف حماه الشمالي، والدخول إلى الحدود الإدارية لمحافظة إدلب، سيدفع تركيا إلى البحث مجدّداً عن اتفاق جديد مع روسيا وإيران، لكن بعد أن يُحقّق الجيش السوري مكاسب عسكرية ومنجزات استراتيجية، تُترجَم سياسياً في أيّ اتفاق جديد تحاول تركيا هندسته، لكن في مقابل ذلك، فقد ازدادت الهواجس الروسية من المناورات التركية، خاصة أن روسيا تُدرِك بأن أردوغان قدَّم دعماً عسكرياً للفصائل الإرهابية عقب سيطرة الجيش السوري على بلدتي قلعة المضيق وكفر نبودة الاستراتيجيتين، في محاولة من النظام التركي تعزيز أوراق التفاوض السياسية، إلا أن المحاولات التركية قد أخفقت في قلب معادلات الميدان، والعبَث بخارطة السيطرة العسكرية التي فرضها الجيش السوري.
تركيا التي وضعت نفسها في مأزقٍ استراتيجي هو الأكثر تعقيداً في خارطة تدخلاتها في الحرب على سوريا، وباتت تركيا تُعاني من ضغوط خانقة بأبعادٍ ثلاثية، فروسيا لا يُمكنها أن تخسر علاقاتها الاستراتيجية مع سوريا من أجل الحفاظ على تركيا كشريكٍ سياسي في نُسخ أستانا وسوتشي، وكذلك إيران التي باتت ترى أن المناورات التركية تُهدّد وبشكلٍ مباشرٍ ما تم تحقيقه سورياً، إضافة إلى جزئية تتعلق بما يتم الاتفاق عليه بين أنقرة وواشنطن لجهة الكرد، وأخيراً عدم تنفيذها لبنود اتفاق سوتشي مع روسيا، لتصبح الفصائل الإرهابية المدعومة تُركياً عبئاً باتت تُعاني منه أنقرة لجهة الخوف المُتنامي من هذه الفصائل التي ستُشكّل تهديداً جدياً على الأمن القومي التركي، وبالتالي وضمن هذه الضغوط الخانِقة التي يُعاني منها أردوغان، باتت الخيارات التركية تعتمد على القنوات السياسية للبحث عن معادلة جديدة تُحقّق خروجاً مشرّفاً من هذه المآزق الاستراتيجية، وتضمن الحد الأدنى من أية مكاسب سياسية تتوافق ورؤية دمشق، ولا سبيل للخروج التركي من هذه المآزق إلا بقبول أردوغان للشروط السورية الروسية، والرضوخ للواقع العسكري الجديد الذي فرضه الجيش السورية، ما يعني أن تركيا ستقدِّم تنازلات غاية في الأهمية في ملف إدلب، فالمعارك العسكرية التي وصلت رسائلها لأردوغان، شّكلت في فواعلها ضغطاً سياسياً وعسكرياً أدخلته في غيبوبة الأمر الواقع، مع الوصول إلى مرحلة انعدام الخيارات السياسية وتأطير الخيارات العسكرية.
في المُحصّلة، بات من الواضح وبعد مُراكمة البيانات السياسية والعسكرية، بأن الدولة السورية ماضيةٌ دونما تأخير في تحرير إدلب ومن ثم افتتاح سياسي بإطار عسكري لملف شرق الفرات، فالدولة السورية وجيشها قد وضعوا سيناريو تحرير ما تبقّى من الجغرافية السورية، هو تحرير قد يطول جرّاء تعقيدات سياسية يُراد منها إطالة أمد الحرب على سوريا، لكن معادلات الحسم قد وضِعَت واتُخِذَت، ما يُنبئ برسم مشهد تكون فيه اليد الطولى لقوات الجيش السوري، هذه المعادلات التي حُسِمت واتُخِذت، لن تُغيّر في واقعها أية تدخلات أميركية أو مناورات تركية أو مسرحيات كيمائية تُفتَعل هنا أو هناك، وما قاله نائب وزير الخارجية والمغتربين الدكتور فيصل المقداد في كلمة له بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثلاثين لرحيل الإمام الخميني وإحياء يوم القدس العالمي الذي أقيم في المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق، هو تجسيد واقعي لرؤية دمشق لكل المسارات السياسية والعسكرية المتعلقة بملف إدلب وشرق الفرات، فقد قال المقداد في تصريحات إعلامية ” أؤكّد أنه يجب ألا يكون هناك أيّ قلق في ما يتعلق بتحرير إدلب، القرار السياسي موجود والقرار العسكري موجود، والمسألة مسألة وقت، نحن نعمل على اختيار أفضل الأوقات المناسبة لتحقيق هذا الانتصار وستتحرَّر إدلب كما تحرَّرت مناطق أخرى من سوريا ، لذلك نحن متفائلون جداً باقتراب تحرير كل ذرّة تراب في سوريا”، وأضاف المقداد ” على تركيا أن تعي أنها لن تبقى للحظة واحدة في سوريا وأن هذه الأرض ستُحرَّر سلماً أو حرباً وعليهم أن يفهموا هذا الكلام”.
أمجد إسماعيل الآغا – كاتب سوري
الميادين نت
Views: 3