واقعياً، لن يقبل بوتين بأقلّ من تسوية تحفظ مكانة روسيا العالمية، وتؤمّن لها أهدافاً ثلاثة.
ما هو المدى الَّذي يمكن أن يصل إليه بوتين؟ وأيّ تسوية لتكريس نظام دوليّ جديد يمكن أن يقبل بها؟
يوماً بعد يوم، يزداد التدخّل الروسي في مختلف أنحاء العالم ويتوسّع، من الحديقة الخلفية لروسيا في كلّ من البلقان وأوروبا الشرقية، إلى سوريا في الشرق الأوسط، إلى فنزويلا وليبيا في كلّ من أميركا اللاتينية وأفريقيا.
وأمام هذه التدخّلات والرغبة الروسية الواضحة في زيادة النفوذ الدولي وتحصيل اعتراف دولي بأحقية هذا النفوذ وشرعنته، تُطرح تساؤلات مشروعة: ما هو المدى الَّذي يمكن أن يصل إليه بوتين؟ وأيّ تسوية لتكريس نظام دوليّ جديد يمكن أن يقبل بها؟
1- السيناريو الأول: تسوية “يالطا 2”
منذ قضيّة ضمّ القرم والمشاكل الروسية مع أوكرانيا، يطرح العديد من المفكّرين الأميركيين المختصّين بالشأن الروسي فكرة أنَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسعى إلى تكريس تسوية “يالطا 2″، في الإشارة إلى التّسوية التي عقدها جوزيف ستالين مع كلٍّ من الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في العام 1945.
في تلك التّسوية، استفاد ستالين من قدرة السوفيات على هزيمة ألمانيا النازية، ومن رغبة ملحّة لدى الأميركيين في استدراج انخراط عسكريّ سوفياتيّ في الحرب ضد اليابان، إضافةً إلى ميزان قوى عسكري يميل إلى صالحه في وسط أوروبا وشرقها، حيث يتواجد ملايين الجنود السوفيات الذين طردوا من ألمانيا.. فاستطاع أن يحصل على اعتراف غربي بنفوذ الاتحاد السوفياتي في وسط أوروبا وشرقها، وضمّ دول البلطيق إلى الاتحاد السوفياتي.
كما تمّ تقسيم ألمانيا وتوزيعها حصصاً بين الحلفاء، وتقرّر الموافقة على طلب ستالين الدَّفع بحدود بولندا نحو الغرب، لمنح الاتحاد السوفياتي مزيداً من الأراضي.
2- السيناريو الثاني: تسوية شبيهة بالوفاق الأوروبيّ 1815
خلال النظر إلى الخريطة الجغرافية والجيوبوليتيكية التي يتمدَّد على أساسها نفوذ روسيا في عهد بوتين، نجد أنَّ هدفه قد يكون مدّ النفوذ إلى مساحة أكبر من مساحة دول الاتحاد السوفياتي السابق، ليشبه إلى حدٍ بعيد النفوذ الذي حقَّقته روسيا الإمبراطورية والعظمة التي رافقتها.
في فترة ما بعد نابليون، وخصوصاً بعد هزيمة الجيوش النابولونية على أيدي الروس الَّذين طاردوا الجيش الفرنسي وصولاً إلى وسط أوروبا فغربها، وإلى أبواب باريس نفسها، أصبح القيصر الروسي يعرف باسم ألكسندر “منقذ أوروبا”، وهو ما جعله يترأَّس جلسة إعادة رسم خريطة أوروبا في مؤتمر فيينا في العام 1815.
الفارق بين التسويتين أنَّ الأولى كرّست الثنائية القطبية، بينما كرّست الثانية مفهوم توازن القوى بين قوى كبرى متعدّدة، أخذت على عاتقها قيادة أوروبا (مركز العالم) بشكل جماعي للحفاظ على السلام، على أن يعود لهم وحدهم ترسيخ الوضع السياسي والإقليمي والدفاع عنه، وإعادة تحديده إذا اقتضت الضرورة ذلك.
اليوم، المظاهر التي يعيشها بوتين، والاقتباسات التي يستخدمها، والتماثيل التي تزيّن القصور الرئاسية والمباني الحكومية، تشير إلى رغبة روسية حالية في إعادة أمجاد روسيا القيصرية التي أخافت العالم القديم، وفرضت نفوذها على العالم، وهزمت أعتى الجيوش العثمانية والأوروبية.
انطلاقاً مما سبق، يمكننا أن نشير إلى أنّ بوتين يسعى اليوم إلى تسوية عالمية تدمج بين معايير التسويتين معاً، فالاعتقاد بأنه سيقبل بعد التقدّم الّذي أحرزه في كلٍّ من سوريا وليبيا وأوكرانيا وغيرها بالاكتفاء بتسوية “يالطا 2″، أي تسوية تحفظ له نفوذه في أوروبا الشرقية فقط، كما يردّد الخبراء الأميركيون، هو مجرّد وهم.
واقعياً، لن يقبل بوتين بأقلّ من تسوية تحفظ مكانة روسيا العالمية، وتؤمّن لها أهدافاً ثلاثة هي: نفوذ بلا منازع في دول الاتحاد السوفياتي السابق، حجز مقعد ثابت لروسيا على طاولة القوى العظمى حين يتمّ اتخاذ قرارات بشأن المناطق المتنازع عليها، ومنع الولايات المتحدة من الاستمرار بالتفرّد في الهيمنة على العالم.
الميادين
Views: 10