تأتي إطلالة السيد وليد المعلم رئيس الدبلوماسية السورية في مؤتمر صحافي عقده اليوم (الثلاثاء) بعد انقطاع طويل مكملة للبيان المكتوب الذي وجهه الرئيس السوري بشار الأسد إلى مجلس الشعب السوري قبل أسبوعين، من حيث مواجهة قانون قيصر الأمريكي وعقوباته، بالتركيز على الجبهة الداخلية السورية وتعزيزها والاعتراف ببعض أخطاء الحزب والإدارة الحاكمين والوعد بتصحيحها، ووضع رغيف خبز، المواطن وتحسين وضعه المعيشي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي كأولويات تتقدم على كل الاعتبارات الأخرى.
السيد المعلم بهدوئه المزمن، وعباراته العفوية، المباشرة، القصيرة، المنتقاة بعناية أكد أن الهدف من العقوبات الأمريكية الجديدة (قيصر) هو تجويع الشعب السوري، وتقويض استقرار بلده، باستهداف لقمة عيشه، فمن يريد مصلحة هذا الشعب لا يعمل على تجويعه وضرب عملته المحلية، واحتلال أبار نفطه وغازه.
صحيح أن السيد المعلم لم يكشف في مؤتمره الصحافي عن خطط حكومة بلاده الاستراتيجية للرد على هذا القانون، حتى لا يستفيد منها الأعداء مثلما قال، ولكن مصادر مقربة من هذه الحكومة أكدت ل”رأي اليوم” أن هناك العديد من الأسلحة التي يمكن توظيفها بفاعلية وكفاءة، أبرزها سلاح الهجرة إلى أوروبا، فإذا جاع السوريون، ووصلوا إلى حافة الموت جوعا مثلما يريد لهم جيمس جيفري، ومايك بومبيو، فإنهم سيجدون أنفسهم أمام خيارين، الأول المقاومة والعمليات الاستشهادية ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، والأهداف الأمريكية في المنطقة، والثاني، ركوب البحر في زحف لمئات الالاف باتجاه أوروبا.
فإذا كانت تركيا استخدمت سلاح الهجرة بفاعلية للضغط على أوروبا و”روضت” مواقفها تجاهها، وحصلت على 6 مليار يورو كمساعدات تعويضية مقابل وقف تدفق المهاجرين عبر بواباتها إلى أوروبا، فلماذا لا تفعل سوريا ولبنان الشيء نفسه، فهناك مليونا سوري ومئتا ألف لاجئ فلسطيني في لبنان لا ينقصهم غير وجود القوارب، للانطلاق نحو أوروبا، مثلما تؤكد المصادر نفسها.
هناك الكثير من المعلومات والمواقف الجديدة اللافتة التي يمكن رصدها في ثنايا المؤتمر الصحافي للسيد المعلم بالإضافة لما ذكرناه انفا، ويمكن حصرها في النقاط التالية:
أولا: الوقوف علنا إلى جانب مصر وحكومة شرق ليبيا (قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر) في مواجهة التدخل التركي الداعم لحكومة الوفاق، والقيادة السورية لم يكشف السيد المعلم عن خطط حكومته في هذا المضمار انتظارا لمعرفة خيارات الجانب المصري، ولكن من الواضح أن هذا الموقف السوري قد لا يقتصر على الدعم السياسي، وقد يتطور إلى إرسال مقاتلين والرد على التدخل التركي في سوريا بفتح جبهة مواجهة جديدة وبالتنسيق مع الحليف الروسي.
ثانيا: المعلومات التي كشف عنها جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي عن عرض أمريكي بالتفاوض مع الحكومة السورية إذا قبلت بالشروط الأمريكية وأبرزها التخلي عن إيران (حزب الله)، ودعم “صفقة القرن” عرض صحيح، أكده السيد المعلم، ولكن الرد عليه كان بإلقائه في سلة القمامة.
ثالثا: قانون قيصر هو الطلقة الأخيرة في جعبة العقوبات الأمريكية على سوريا، وهو دليل إفلاس، فسوريا تواجه هذه العقوبات منذ عام 1978، وأفشلتها مثلما انتصرت على المؤامرة الحالية واستعاد جيشها أكثر من 80 بالمئة من أراضيها.
رابعا: لن تقبل الحكومة السورية أي إغلاق أو وجود قوات دولية على حدودها مع لبنان، وستقاوم هذا التوجه بكل الطرق والوسائل ومهما كان الثمن.
قانون قيصر الذي جرى إصداره في عجالة، يأتي نتيجة قلق أمريكي حقيقي على أمن الكيان الإسرائيلي ومستقبله، ووصول الإدارة الأمريكية إلى قناعة راسخة بأن الغارات الإسرائيلية على سوريا لإخراج الإيرانيين وحزب الله منها فشلت في تحقيق أهدافها، وأعطت نتائج عكسية من حيث دفع محور المقاومة لامتلاك قدرات عسكرية كاسرة للتفوق الإسرائيلي، ولهذا جرى تخفيف هذه الغارات في الفترة الأخيرة لقلة جدواها.
الجانبان الأمريكي والإسرائيلي باتا يدركان أيضا أن “إسرائيل” باتت تواجه تهديدا وجوديا مرعبا ليس قادما من جنوب لبنان، وإنما من جنوب غرب سوريا أيضا، وجبهة الجولان تحديدا، وهذا ما يفسر العرض بالتفاوض الذي طرحه جيمس جيفري، وأعاد تكراره بالحديث بأن الرئيس الاسد يمكن أن يبقى في السلطة، بل ويتعزز، إذا قبل بالمطالب الأمريكية، وهذا ما قصده السيد المعلم بأن الرئيس الأسد يبقى في موقعه طالما يريده الشعب السوري، أي أن هذا الشعب هو الوحيد الذي يقرر في هذا المضمار، وليس أمريكا أو غيرها.
ختاما نقول إن هذا الهجوم المضاد للدولة السورية سواء على قانون قصير الأمريكي، أو المؤامرة الجديدة التي تطل برأسها، سواء في لبنان أو الجنوب السوري، يأتي في إطار استراتيجية محور المقاومة، وتعزيز الجبهة الداخلية وتعبئتها، وتحصينها، في مواجهة الحرب النفسية التي تشنها أمريكا وأدواتها في المنطقة.
عندما يتحدث “شيخ” الدبلوماسية السورية بهذه اللهجة التصعيدية فإن المزاج في البلاد هو “مزاج مواجهة” على الصعد كافة، والمرحلة المقبلة قد تكون حافلة بالمفاجات، وركزوا أنظاركم باتجاه ليبيا.. والأيام بيننا.
عبد الباري عطوان – راي اليوم
Views: 1