الكاتب: بيروت حمود – الاخبار
منذ أكثر من شهر يتصدّر ضم الضفة المحتلة إلى كيان العدو جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية. تحاول الأخيرة تصدير المسألة على أنها خلاف بين قطبَين سياسيين على عدد الدونمات التي يُحضّر لقضمها. هكذا، عبر الأذرع الإعلامية المختلفة، راحت تل أبيب ترشق بالوناتها الاختبارية رصداً لردود الفعل المحتمَلة. سلوكٌ قديم ــ جديد غيّب النقاش المهم حول أبعاد الضم وماهيّة إعلان «السيادة» على الأراضي المحتلة أصلاً، وتبعات ذلك على الفلسطينيين. بل ربما السبب الأساسي الذي منع الحكومة الإسرائيلية من نشر أي خريطة هو أن تحيّد النقاش حول خطورة ما ترمي إليه، وتمنع أيّ محاولة لرصد أبعاده.
مع ذلك، ناقش عدد من الباحثين في «معهد أبحاث الأمن القومي»، في مقدمتهم رئيس المعهد، عاموس يدلين، أبعاد الضم. لكنه بداية يطرح ثلاث خرائط مختلفة.
الخريطة الأولى (راجع خريطة رقم 1) تطرح ضم غور الأردن وشمالي البحر الميت على نحو لا يختلف عن طروح وزير الشؤون الخارجية الإسرائيلي الراحل يغآل ألون لهذه المنطقة. فكرة ضم هذه المنطقة ذات منطق أمني صريح، لأنها تعرّف «الحدود الشرقية لإسرائيل كخطّ دفاعي»، وتتضمن غور الأردن بمعناه الأوسع، والتلال الشرقية لجبال نابلس، وصولاً إلى «محور ألون» (أي نحو 22% من مساحة الضفة). في قلب هذه المساحة 30 مستوطنة (عدد مستوطني هذه المنطقة أقل من 3% من مجمل مستوطني الضفة)، وفيها عدد من المناطق الفلسطينية تتقدمها مدينة أريحا التي لن تُحل عليها السيادة غالباً.
الخريطة الثانية (راجع خريطة رقم 2) فتطرح ضم الأراضي المحتلة الواقعة ضمن نطاق المستوطنات، البالغة مساحتها 10% من الضفة، ولا تشمل طرقات الوصول إلى المستوطنات. لا يتضمن هذا الطرح الذي يعبر عن «حل مؤقت» ميزات استراتيجية لإسرائيل لأن المستوطنات ستظل منعزلة ومقطعة، لكن الميزات أن تل أبيب ستطبّق السيادة والقانون الإسرائيلي على المستوطنات بخلاف القانون القائم حالياً هناك.
راحت تل أبيب ترشق بالوناتها الاختبارية عبر الأذرع الإعلامية رصداً لردود الفعل.
ثمّة خريطة ثالثة تقترح ضم غور الأردن والمستوطنات بناء على خريطة «صفقة القرن» الأميركية (راجع خريطة رقم 3) التي تتضمن بدورها: غور الأردن في نطاق محدود بالمقارنة مع طرح رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو (17% من مساحة الضفة)، وكل التجمعات الاستيطانية، و16 مستوطنة منعزلة في قلب المناطق الفلسطينية، إذ يربطها مع إسرائيل عدد من الطرقات، وكلها بالمجمل تقدّر بـ30% من الضفة، وهو ما يعني من الناحية الأمنية أن إسرائيل ستؤمن الحدود الشرقية وكذلك المنحدرات الغربية لجبال «السامرة» التي تُشرف على عمق الكيان ومطار بن غوريون، إضافة إلى الحزام المحيط بالقدس. لكن هذا الطرح سيوّلد حدوداً بطول 1600 كلم، كما سيترك «مجتمعات إسرائيلية» في مستوطنات معزولة متصلة بمحاور طويلة وضيقة، الأمر الذي يصعّب حمايتها، ويُوّلد احتكاكاً دائماً بين المستوطنين والفلسطينيين، وفق تقدير باحثي المعهد.
عوامل مشتركة
رغم الفروقات بين الخرائط، فإنّها تتمحور حول ضمّ أراضٍ احتلتها إسرائيل. لكن ما الذي يعنيه ذلك؟ في الشكل العام، قد لا يكون هناك فرق بين «تطبيق السيادة» أو «الضم». مع ذلك، مصطلح «تطبيق السيادة» الذي تروّج له إسرائيل قد يحمل «نغمة سياسية» ذات دلالة على «الشرعية»، لا لهجة سلبية تعبّر عن الاستيلاء أو السيطرة. فهي برغم احتلالها الضفة عام 1967، لا تطبّق التشريع الإسرائيلي هناك مباشرة، وإنما عبر أوامر القيادة المركزية (القائد العسكري) المطبقة على المستوطنات، والمحاكم العسكرية التي تحاكم الفلسطينيين في قضايا مختلفة على رأسها الأمنية.
ضم المستوطنات يعني أن المستوطنات كافة التي سيجري ضمها ستكون خاضعة للقانون الإسرائيلي المطبق على الأراضي المحتلة عام 1948، ما يسهل ويُسرّع مصادرة الأراضي الفلسطينية للمستوطنات الجديدة، أو توسيع القائمة، إذ لن يخضع الفلسطينيون في الأراضي المضمومة لقوانين السلطة، بل يصيرون مقيمين في «دولة إسرائيل»، وربما يمكنهم في حالات معيّنة التقدم بطلب للحصول على الجنسية، الأمر الذي تدرس تل أبيب كيفيات منعه لاحقاً. الأهم من ذلك أنه يوجد قانون أساس (ذو مكانة دستورية) يدعى «الاستفتاء الشعبي»، ينص على أنه في حال أرادت أي حكومة إسرائيلية «التنازل»، في إطار مفاوضات، عن أراضٍ ضمتها، ستكون بحاجة إلى موافقة 80 عضو كنيست (شبه مستحيل)، أو إجراء استفتاء عام. بذلك، يؤسس الضم (وفقاً لأيّ خريطة) لاستحالة تقديم أي «تنازل» في مفاوضات مقبلة لو حدثت.
تداعيات على المدى العام
بالعودة إلى باحثي المعهد الإسرائيلي. هم عرضوا التداعيات على إسرائيل في مقدمتها الإضرار باستقرار الوضع الأمني في الضفة، الذي «تميّز بالهدوء النسبي منذ نهاية الانتفاضة الثانية»، إذ إن «إحلال السيادة قد يؤدي إلى وقف التنسيق والتعاون الأمني كلياً بين إسرائيل والسلطة» (اللتين تتشاركان في إحباط عمليات المقاومة، وتفريق المظاهرات، وتبادل المعلومات، وغيرها). وقف هذا التعاون يعني أن الجزء الأكبر من إحباط عمليات المقاومة سيُلقى على إسرائيل، كما أن رام الله تتحضر، كما قال رئيس حكومتها محمد إشتيّة، لإعلان نفسها «دولة فلسطينية في حدود الـ67»، ما يعني أن دولاً وأطراً على الصعيد الدولي ستعترف بها، في حين أنه قد يُنظر إلى إسرائيل كدولة تحتل الدولة الفلسطينية أو أجزاء منها. في حالة ضم أجزاء واسعة، وتحت ضغط وغضب شعبي، قد تحل السلطة نفسها، و«تسلم المفاتيح» لإسرائيل التي ستصبح مسؤولة عن 2.7 مليون في الضفة، كما قد «يفقد اتفاق السلام مع الأردن مضمونه ولا يعود هناك معنى للتعاون الأمني بين المملكة وإسرائيل منذ سنوات طويلة»، يخلص الباحثون أنفسهم.
في المقابل، نشرت صحيفة «يسرائيل هيوم» خلاصات تقدير أجرته وزارة الاستخبارات، إذ يقول باحثو الوزراة إن «المرحلة الحالية هي الأنسب لضم مناطق في الضفة والغور». اللافت في تقدير هؤلاء أن استنتاجهم مبنيّ على المعطيات التي «لا تتوقع حدوث تصعيد أمني»، وأنه في حال تضررت العلاقات مع الدول العربية، «المياه ستعود إلى مجراها سريعاً»، لأن الضمّ «لن يؤجج الشارع العربي ضد أنظمته، وبالتالي قد يقود ذلك إلى وضع برنامج لتحسين العلاقات مع إسرائيل لا يستند بالضرورة إلى تسوية فلسطينية ــ إسرائيلية»، كما أن «الانتقادات الدولية ستتلاشى سريعاً». هذه الورقة، التي قُدمت إلى وزير الاستخبارات، إيلي كوهين، شدّدت على ميزات مخطط الضم الذي سيجري على مراحل، فهو «سيشكل ورقة تضغط بها على السلطة (في حال أي عودة مستقبلية إلى المفاوضات) على قاعدة وقف مراحل الضم كشرط لهذه العودة»، مع أن القانون الإسرائيلي يصعّب أصلاً التنازل عن أجزاء جرى ضمها. وبسبب عوامل منها «وجود الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في سدّة الحكم، وعدم رغبة حماس في خوض حرب، إلى جانب المكانة المتدنية التي تحتلها السلطة بسبب خلافها مع الولايات المتحدة وعدم رغبتها في استخدام العنف حفاظاً على وجودها، وانشغال العالم عامة بمواجهة وباء كورونا، ومن ثم انشغال الشعوب العربية بقضايا محلية اقتصادية واجتماعية… هذا الوقت الأنسب للضم».
كما يبدو، إن أي جزء قد تضمه إسرائيل إلى الأراضي التي احتلتها عام 1948، بغض النظر عن التداعيات المرحلية التي ستعمل جاهدة على احتوائها، لا يلغي انعكاسات هذه الخطوة على المدى البعيد، كونها خطيرة جداً على الفلسطينيين ليس في الضفة فحسب، بل على أولئك المنسيين في مخيمات اللجوء. فهي خطوة تنطلق قبل كل شيء من سرديات توراتية وتاريخية إلغائية حرمت الفلسطينيين حقهم في الأراضي التي احتلت إبان النكبة، واليوم تتابع تكريس الواقع الذي فرض على مهل منذ 1967. فهل ينتج الضم واقعاً أشد قسوة يصبح فيه الفلسطينيون كأنهم يحيون في قلب «محميات»؟ على الأقل، لا تبشر أفعال الغزاة بوقائع مختلفة لكن تاريخهم قابل للانتهاء أيضاً، وهو ما تحدده دائماً وأبداً قرارات المواجهة… الجريئة.
Views: 5