بعد عشر سنوات من الحرب، هل لا يزال بالإمكان النظر إلى سورية بوصفها مجتمعاً ودولة؟ سؤال ثقيل وموجع، لكنه وجيه، وذلك باعتبارين رئيسين: الأول هو الحرب الدائرة في سورية، بكل أحوالها وأهوالها، وقد كانت الدولة وفكرة الدولة، والمجتمع وفكرة المجتمع أول استهدافاتها. الثاني هو “تراجع” المقاربات الشائعة أو التقليدية حول المجتمع والدولة في العلوم الاجتماعية والسياسية في عالم اليوم أيضاً.
وإذا كان بعض الدراسات والتقديرات حول سورية، لا يزال يتكئ إلى المقاربات المتعلقة بـ”دولة” و”مجتمع” في التحليل السياسي وقراءة الحرب، فلأنها تعمل “على جري العادة”، وأما الدراسات التي “عدلت” عن ذلك إلى مقاربات انثروبولوجية وتاريخية، فيبدو أنها تقع تحت منظور مركب أو هجين، هو منظور مشرقي-استشراقي في أن!
وهكذا، يتم النظر إلى سورية اليوم لا بوصفها “مجتمع ودولة”، وإنما بوصفها “حقل” أو “مجال” أو “حيز” جغرافي تتقابل أو تتواجه فيه فواعل وبنى اجتماعية وسياسية على درجة كبيرة من الانقسامية والاحتراب؛ وان عد تلك الفواعل “سوريَّة” أو “في أفق سوري” هو من باب “التواضع” على تسميات جرت أكثر منه تعبيراً عن سمات أو طبائع مشتركة.
وقد بدا أن “المجتمع” و”الدولة” هما آخر ما يفكر به كثير من السوريين، وان “الحداثة” و”الهوية الوطنية” و”الدولنة” ما كانت -في كثير من الأحيان- أكثر من “قشرة” هتكتها أو مزقتها الحرب.
هنا يبدو المفكر الفرنسي جيل دولوز مفيداً في قراءة هذا الجانب من الحدث السوري، يقول: “وَحدَهُ الاختلافُ هُوَ مَا يَتَـكَرَّرُ، لتُصبِـــحَ الصَيرورَةُ الاختلافَ الأَزلِــيَّ الذي يَعُودُ أَبداً”. يمكن أن نقرأ كلمة “الاختلاف” بمعنى الصراع أو الحرب أو المواجهة؛ ونقرأ كلمات “العودة” أو “المعاودة” أو “العود الأبدي” بمعنى التكرارية والاستمرارية لدورات الصراع والحرب والمواجهة.
وهكذا فإن الدراسات والتقديرات حول الحرب تنظر إلى السوريين بوصفهم أدياناً ومذاهب وطوائف وقبائل وعشائر في حالة حرب، وليس مجتمعاً سورياً؛ وتنظر إلى الدولة في سورية، بوصفها كيانية متغيرة وليست ثابتة أو قارة أو مكينة، بل ان مدارك وقيم “اللا دولة” قوية ومتجذرة بكيفية فاقت كل التوقعات. وهذا هو أصل السؤال الذي بدأنا به هذا المقال، وهو من أهم ما يجب أن يتداركه السوريون اليوم.
يبدو أن شريحة من السوريين ربما نظرت إلى نفسها وإلى الحدث السوري نظرة الاستشراق والمستشرقين أنفسهم، أي أنها نظرت إلى السوريين:
– بما هم ملل ونحل وقبائل وعشائر وطوائف وجهات ومناطق “في سورية” أكثر منهم “مجتمعاً سورياً”، وكيانيات انقسامية على حساب “دولة سورية واحدة”، وفي مواجهتها.
– وكونهم متأخرين عن اللحاق بعالم الحداثة والدولنة، بل ولديهم اتجاهات مناهضة للحداثة وقيم التنوير والتعدد والاختلاف وقبول الآخر، على ما ظهر من تأييد شريحة قد تكون كبيرة منهم للتنظيمات الجهادية المسلحة وسردياتها الظلامية والتكفيرية.
علينا أن نستدرك على ما ذكرناه للتو، ذلك أن في فضاء الحدث السوري، وبين السوريين أنفسهم، روح لـ”الاجتماع الوطني” و”الهوية الوطنية”، وروح لـ”الدولنة”، مكنتهم –مع عوامل أخرى- من الاستمرار في الحرب ومواجهة إكراهاتها وتحدياتها؛ صحيح أنها روح “مُجهَدَة” و”أقل قابلية” اجتماعية وسياسية، و”أقل قدرة” على الفعل، إلا أنها قوية بالقدر الذي يجعلها أكثر مقاومة نسبياً حيال قوى الانغلاق والتعصب والكراهية، وقوى الفساد والحرب والتدمير، وهذا بحد ذاته مبعث أمل.
وأخيراً، تحدث ونستون تشرشل في بدايات القرن العشرين عن سورية قائلاً: “سورية هذه، لا تعرف كيف تحكم نفسها، ولا تدع أحداً يحكمها”. ربما لم يفعل السوريون خلال المئة عام الأخيرة الكثير لـ”تكذيب” تشرشل وقوى الظلام والعدوان حيال سورية والمنطقة، إلا أن عليهم اليوم أن يفعلوا، ولابد أنهم فاعلون.
د.عقيل محفوض كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية والشرق اوسطية
Views: 5