لن يتقاعد الإنسان من العمل إلا بعد تقاعده من الحياة, فالعمل يقي من ذل الحاجة, ويمكن أن يكون البحصة التي تسند الجرة يقول أبو يوسف: في السلم والحرب الوضع سواء، لا مجال للراحة فكيف في هذه الظروف خاصة بعد انتشار (كورونا) الذي أثر على حركة العمل والأسعار .؟.يعمل أبو يوسف في محل لبيع أدوات التمديدات الصحية, وهي مهنة اعتاد عليها منذ أن كان موظفاً في كهرباء دمشق ليستمر بعد التقاعد في ذات العمل, فالراتب التقاعدي يعد (فرنكات) ويبدو مضحكاً ..وحتى التعويض الهزيل لن يسمح لأحد بالبدء بمشروع حتى بحدود مترين لبسطة صغيرة ..أما تعويض الوفاة يتساءل أبو يوسف مازحاً لماذا بعد الوفاة (منكون ارتحمنا ..عطونياه بعد التقاعد نستفيد منوعلى حياتنا)..! فرضت الظروف العامة مجتمعة على الشريحة المنسية من المجتمع شريحة (المتقاعدين ), واقعاً أشد ايلاماً خلال سنوات الحرب ليأتي فيروس الكورونا اللعين ويزيد الطين بلة, فالمطلوب منهم العمل على جبهات متعددة حتى يؤمن الحد الأدنى من متطلبات الحياة المعيشية التي لا ترحم أحداً, إذ إن الراتب التقاعدي لمن بلغ أرذل العمر يعادل (فرنكات) يذكرنا بمقولة أحدهم : (يقبض المتقاعد راتبه ويقول: تؤلمني يا وطني), في المقابل تؤكد مؤسسة التأمينات الاجتماعية على لسان مديرها يحيى أحمد أنها استطاعت الوفاء بالتزاماتها تجاه المتقاعدين وفق قانون التأمينات الاجتماعية, إذ صرفت المعاشات لـ 500 ألف متقاعد في كل المناطق الآمنة والساخنة بكتلة نقدية تتجاوز 18 مليار ليرة شهرياً, إضافة إلى تأمين 365 ألف عامل من القطاع الخاص في الآونة الأخيرة ..ويقترح الباحث الاجتماعي حسام الشحاذة العمل على تنظيم قاعدة بيانات وطنية لرصد نسب الفقر بين المتقاعدين والتي سيكون لها دور مهم في تخطيط الجهود وإعادة توزيع الموارد المحلية والثروات بما يحد من الفقر وجعله في أدنى مستوى .في بعض اللقاءات التي رصدتها “تشرين” نجد الوجع مشترك بين غالبية هذه الشريحة .. لا يطعمني ! الراتب التقاعدي لا يسد ثمن كيس الأدوية الذي يلازمنا, فكيف له أن يطعمني وأسرتي، فما زال أبنائي بحاجتي ؟!يقول أبو محمد الذي بلغ من العمر عتيا : ما زلت أصل الليل بالنهار بعد تقاعدي من عملي كموظف في وزارة الزراعة ..وحالياً أعمل في مخبز لبيع الخبز والمعجنات في فترة الصباح .. ومن ثم اتجه للعمل على بسطة في منطقة البرامكة لأحقق ما تيسر.. ….يضحك ساخراً عندما يقبض راتبه التقاعدي ..فهولا يساوي قروشاً في هذه الأيام . أربعون عاماً قضتها أم علي بالتدريس ..أفنت عمرها وتستمر بذات العمل في إحدى رياض الأطفال, تقول أم علي بين فترة وأخرى: أتعهد لأبنائي بترك هذا العمل المضني سيما بعد أن وهن العظم منا واشتعل الرأس شيباً, لكن ظروف الحياة لا ترحم وما زال أبنائي يشقون طريقهم في الحياة والبعض ما زال في الجامعة .. لا مكان للراحة عندنا خاصة في هذه الظروف اللعينة ..فالراتب التقاعدي لا يطعمنا خبزاً … لكل المناطق الآمنة والساخنة تعد المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية من أهم ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وتقدم خدمات التأمين المنصوص عنها بموجب قانون التأمينات وتعديلاته رقم 92 لعام 1959, والمتمثلة في تأمين الشيخوخة والعجز والوفاة وإصابات العمل لكافة العاملين في القطاعين العام والخاص والمشترك. يقول يحيى أحمد مدير عام المؤسسة : إنها استطاعت تجاوز المحنة المالية خلال فترة الأزمة, وقدمت مئات المليارات لكل المناطق الآمنة والساخنة وتقوم حالياً بصرف المعاشات النقدية لحوالي 500 ألف صاحب معاش مستحق بكتلة نقدية تتجاوز الـ 18 مليار ليرة سورية, كما بلغ إجمالي النفقات المدفوعة للمؤمن عليهم والمتقاعدين خلال عام 2019 مبلغاً قدره 148 مليار ليرة وهذه الخدمة تقدم عن طريق المصارف أو كوات البريد . يضيف أحمد مدير عام المؤسسة إن الخدمات تتمثل بمنح قروض حيث تم مؤخراً رفع سقف تلك القروض إلى 500 ألف ليرة وبلغ عدد القروض الممنوحة أكثر من 51 ألف قرض بقيمة مليار ونصف المليار ليرة سورية . تشميل 365 ألفاً من الخاص ويؤكد أحمد أنه تم زيادة عدد المفتشين ليصبح العدد الإجمالي 80 مفتشاً ومراقباً حيث تم تشميل 365 ألف عامل من القطاع الخاص خلال الفترة من 1/9/2019 إلى النصف الأول من العام الجاري 2020 ليصبح العدد الإجمالي للمسجلين في القطاع الخاص بكافة الصناديق 852،2 ألف عامل، وأشار إلى أن الغرض من نظم التأمينات الاجتماعية في كفالة الدولة لكل فرد من رعاياها, بما يمكنه من الاحتفاظ بمستوى مقبول لمعيشته ولمن يعيلهم وذلك بتطبيق مبدأ التكافل الاجتماعي, وهذه الكفالة تم تنظيمها بموجب نص قانوني (قانون التأمينات الاجتماعية ) الذي لم يفرق في مواده بين القطاع العام والخاص والمشترك .بادية الونوس عن خطة المؤسسة لتوسيع مظلة التأمين بين أحمد أن المؤسسة قامت بزيادة نشاطاتها في بسط المظلة التأمينية لتشمل كافة العاملين بأعلى درجات المسؤولية وخاصة بعد إعادة الخدمات الأساسية في القطاعات المختلفة الأمر الذي أدى إلى عودة الفعاليات الاقتصادية وإطلاق عملية الاقتصاد الوطني وخلق بيئة عمل أفضل. تحديات حول الضغوط الاقتصادية التي تواجه المتقاعدين وما يرتبط بها من ضغوط نفسية وانفعالية بسبب الظروف المحيطة وتبعاتها ما هي الحلول المقترحة يؤكد الباحث النفسي والتربوي في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل د.حسام سليمان الشحاذه وجهة نظره يقول :إن الأزمة الاقتصادية التي تواجه جميع دول العالم اليوم؛ ومن بينها سورية – بسبب ظروف الحرب وجائحة كورونا خلفت عدة تحديات هددت الطبقة الوسطى من أبناء المجتمع (طبقة محدودي الدخل) ومن بينهم شريحة المتقاعدين، وتمثل أهم تلك التحديات انخفاض المستوى المعيشي، وتراجع قيمة الليرة السورية أمام القطع الأجنبي، وغلاء المواد الاستهلاكية التي أصبحت أسعارها غير متناسبة مع مستوى الدخل، بالتزامن مع معدلات منخفضة للنمو الاقتصادي، وعدم تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية بسبب عدم التخطيط للتنمية المتوازنة، ما ساهم في اتساع ظاهرتي الفقر والبطالة بين شريحة المتقاعدين، والتي أرهقت كاهل جميع أفرادها بسبب غياب أي مصدر آخر للرزق، وزاد عدد أفرادها الذين يعيشون تحت خط الفقر، وهم اليوم يعانون من الفقر الشديد، ولا يملكون سد حاجاتهم الأساسية بشكل كامل ومتوازن، وأصبحت معدلات الفقر بينهم غير منسجمة مع معدلاتها في الدول المجاورة. نسب الفقر في الخاص تصل أقصاها يؤكد د. الشحاذه أن الوضع يزداد سوءاً بين المتقاعدين من القطاع الخاص، حيث معدلات الفقر والعوز تصل إلى أقصاها بسبب غياب الرعاية الاجتماعية والاقتصادية لهذه الشريحة من قبل رب العمل وأصحاب المهن في أنشطة القطاع الزراعي والصناعي أو التجاري المتوسط، والذي يوصف بأنه غير مكتمل، كما زادت نسب الفقر بين المتقاعدين من القطاع الحكومي بسبب غياب أي مصدر آخر للرزق، إذ لا يتناسب مستوى دخلهم الشهري مع ارتفاع الأسعار وغلاء مستوى المعيشة، ولهذه الظاهرة الاجتماعية والاقتصادية مجموعة عوامل متداخلة ومترابطة، لا يمكن الفصل بينها، ويأتي في مقدمة تلك العوامل ظروف الحرب، والتهجير، وأعمال التخريب، وخسارتهم لمنازلهم وموارد رزقهم الإضافية، ومواجهتهم لظروف اقتصادية واجتماعية وأمنية قاسية وغير مألوفة، كالسعي إلى تأمين مسكن بديل بشكل إسعافي، وارتفاع أسعار المحروقات والمواد الغذائية بشكل غير منضبط أو مدروس، وغياب الرقابة التموينية. لم تكن الجهود الحكومية فاعلة ويسترسل د. الشحاذه في تحليل عوامل زيادة الفقر والعوز بين شريحة المتقاعدين من أبناء المجتمع، هو غياب التخطيط الاقتصادي والاجتماعي من قبل الحكومة لاستيعاب ظروف الحرب، ووضع البدائل الإسعافية والحلول المتوازنة للحد من ظاهرة الفقر بين أبناء هذه الشريحة، وغياب المشاريع التنموية الجدية التي تستهدف تحسين المستوى المعيشي لهم، إذ لم تكن جهود القطاعات الحكومية مؤثرة وفاعلة بالقدر المنشود. إعادة توزيع الموارد وعن سبل المواجه المتاحة التي يمكن فيها تخفيض معدلات الفقر بين المتقاعدين ؟ يرى د. الشحاذه؛ أن جهود الحل لا تأتي من طرف الحكومة فقط دون جهود المواطن وجهود القطاع الخاص والأهلي، الكل مسوؤلون عن الحد من ارتفاع نسب الفقر بين شريحة المتقاعدين، فعلى المستوى الحكومي، لم يتم العمل على تنظيم قاعدة بيانات وطنية قابلة للتحديث المستمر لرصد نسب العوز والفقر بين المتقاعدين، والتي سيكون لها دور كبير وهام في تخطيط الجهود وإعادة توزيع الموارد المادية والخدمات، وفي صنع القرار على المستوى القومي للحد من الفقر بين المتقاعدين وجعله في أدنى مستوى ممكن له، كما أن جهود القطاع الخاص وتوجهات الرأسمال الوطني لم تلق العناية الكافية والتشجيع المطلوب خلال سنوات الأزمة السورية، وهذا ما يمكن تسميته بغياب منظومة الأمان الاجتماعي والاقتصادي، فسبل الحل كثيرة ومتاحة، لكنها تحتاج إلى تخطيط وتنظيم وتوجيه ورقابة صارمة، وإعادة توزيع الموارد المادية والاقتصادية بما يحقق العدالة الاجتماعية لشريحة المتقاعدين من أبناء الوطن.
Views: 5