كورونا فرضت ومن دون سابق إنذار تحوّلا جذريًا لم تتكشّف كامل أبعاده بعد، معلنةً عن حلول عهدٍ جديد ليس فقط على الإنسان، فهو يشكّل جزءًا صغيرًا من حلقة كبرى هي أكثر تعقيدًا ممّا قد تتصوًر عنجهيّتنا البشريّة، إنّما على جميع مكوّنات البيئة من كائنات حيّة على قدم المساواة.
قد يجد المرء صعوبة في الجدال بأن جائحة كورونا قد خدمت بأي شكلٍ من الأشكال، نظرًا للخسائر الجسيمة التي ألحقتها بالعالم بأسره وعلى كافّة المستويات، بل إن كان هناك من حقيقة جديرة بالذكر، فهي أنّ كورونا عرّت الأنظمة الكبرى التي تحكم العالم كاشفة ركاكتها في صون صحّة وإقتصاد وأمان وبيئة شعوبها، بالإضافة إلى الخلل في أنظمة المراقبة العالمية للمناخ والمياه وصحّة المحيطات، والتي إنعكست بدورها على جودة التنبؤات وغيرها من الخدمات المتعلّقة بالطقس، كذلك الخدمات المتعلّقة بالمحيطات. مع ذلك، وكما قال مهندس الجمهورية الفرنسية الخامسة شارل ديغول ذات مرة: إن الحكم يعني دائمًا الاختيار من بين العيوب.
المفارقة أن حبس أو «حجر» الإنسان في جميع أنحاء العالم قد سمح بفورة حرّية غير مسبوقة لباقي الكائنات الحيّة، حيث أظهرت كاميرات المراقبة المنتشرة حول العالم مشاهد حصريّة لم ندرج على رؤيتها من قبل لحيوانات تتجول بطلاقة في كافّة أنحاء المناطق الحضرية التي عادة ما يستحوذ عليها الإنسان، كقطيع الغزلان الذي انطلق في شوارع هاريدوار في شمال الهند، وعصابات القرود التي راحت تتنافس على الطعام في مقاطعة لوبوري في تايلاند، وقطيع الماعز الجبلي الذي تجوّل بشكل عشوائي في شوارع ويلز، والخنازير القادمة من الجبال إلى شوارع برشلونة، على سبيل المثال لا الحصر. علاوة على ذلك، فإن هذه الحرّية المكتشفة حديثًا في حدائق الحيوانات على وجه الخصوص، سمحت لـ «ينغ ينغ» مثلا، الباندا المقيمة في «أوشين بارك» في هون كونغ، بالتزاوج بشكلٍ طبيعي وبالتالي ولادة أول شبل باندا عملاق في هونغ كونغ بعد أكثر من عشر سنوات من المحاولات المتكرّرة غير الناجحة.
أضف إلى ذلك، فقد ساهم الإغلاق الموقّت للأنشطة البشرية في إنخفاض الإنبعاثات السامّة وإنحسار الصيد الجائر، ما أتاح إستراحةً للبيئة المائيّة وفرصةً للتنفس والتعافي ولو لفترة وجيزة من تداعيات التلوّث وتغيّر المناخ على مدى العقود الماضية.
الحقيقة المرّة الصادمة هي أنّنا فقدنا 60٪ من الحيوانات البرّية على مدار الخمسين سنةٍ الماضية، ولكن مع تفشّي كورونا وتكهّنات إنتقاله إلى الإنسان من حيوانات بريّة حيّة في سوقٍ شعبيٍّ في ووهان الصينيّة، ألقي الضوء من جديد على كارثة الإتجار بالأحياء البرّية، ما شكّل حافزًا طارئًا لضرورة حثّ الحكومات على حظر أسواق الحيوانات الحيّة، وإصدار قيود صارمة كما العمل لمكافحة التفلّت والصيد الجائر للحيوانات البرّية. في الحقيقة، لقد ساهمت كورونا بتجديد الاهتمام العالمي بكيفيّة إستخدام الحياة البرّية والحفاظ عليها، موفّرةً فرصة غير مسبوقة لتطوير وتنفيذ برامج ونهج الحفظ التي تعزز الممارسات الصحيّة وتطوّر سبل العيش المرنة القائمة على الإستخدام المنظم والمستدام للموارد الطبيعية، مثل الدعوات إلى الإستثمار في القيمة التي يمكن للسكان المحليين الحصول عليها من الأراضي البرّية، نظرًا إلى أنّها تتنافس مع الأشكال الأخرى لإستخدام الأراضي، وبالتالي ضمان حماية الحياة البرّية ولو بطريقة غير مباشرة.
في الهند أيضًا، تم تسجيل ارتفاع كبير في عدد صغار السلاحف البحرية «أوليف ريدلي»، بعد خلوّ الشواطئ من البشر، حيت تم إيداع حوالي 60 مليون بيضة على الشواطئ الهندية طوال فترة الوباء.
مع ذلك ، وكما قال الرجل ذو المواهب الجمّة بابلو بيكاسو، «كل قيمة إيجابية لها ثمنها من الناحية السلبية»، ففي المملكة المتحدة مثلا، على الرغم من أن القنافذ استمتعت أخيرًا بالطرقات الخالية من السيارات، إلا أنّ البطّ الذي يعتمد عادةً على البشر في إطعامه، بدأ يجوع.
لا شكّ أنّ كورونا تركت أثرًا جسيمًا غير مسبوق على الحيوان كذلك. في الأساس كورونا هي وباء حيواني المصدر إنتقل بدايةً من الحيوان إلى الإنسان؛ إلا أنّه قفز الآن من الإنسان عائدًا إلى الحيوان، حيث ثبّتت مثلا إصابة النمر «ناديا» مع ستة قطط كبيرة أخرى في حديقة حيوانات «برونكس» بفيروس كورونا، بعد أن إنتقلت إليهم العدوى من حارس الحديقة الذي لم تكن تظهر عليه أعراض الفايروس. أمّا القرود الكبيرة، وهي المهدّدة أصلا بالانقراض، من المحتمل أن تكون أكثر عرضة لهذا الفيروس التاجي الجديد أيضًا.
ولكن الإقفال التّام وتوقّف عائدات السّياحة، قد يعني إنقراض 77 نوعًا على الأقل من النباتات والحيوانات التي بالفعل إنقرضت في البرّية وتوجد اليوم حصريًا في مراكز حفظ الثروات الحيوانيّة والنباتيّة. أمّا في ما يخصّ تشغيل حدائق الحيوان، فقد وجد باحثون من جامعة «أكسفورد بروكس» وبعد فحصهم لحوالي الألف صورة على تطبيق «إنستغرام»، أن السّياح الذين لا يتّبعون إحتياطات السلامة الإلزاميّة، من الممكن أن ينقلوا الفيروس إلى الغوريلا الجبليّة البرّية عند إلتقاط صور «السيلفي» معهم من مسافات قريبة.
في ايلول العام الماضي، ذكرت «ذا إيكونوميست» أن السماء الزرقاء قد عادت لتتحوّل رماديّة اللون في 12 مدينة مختلفة كانت قد فرضت حظر التجوال في آذار 2020، حيث بدأ تلوّث الهواء بالعودة إلى مستوياته السابقة، أي ما قبل كورونا، مثل دلهي، لندن، باريس ونيويورك المكتظّة سكانيًّا. كما عطّل الوباء خطة كانت مقرّرة على مدار العام للإجتماعات والمفاوضات الدولية التي كانت مصمّمة لمعالجة سياسة التنوع البيولوجي والتخطيط.
تواصلت الدّيار مع السيد ميشال زغزغي، مصوّر الحياة البرّية اللبناني صاحب الإصدارات العديدة والحائز جوائز كثيرة، الذي يتنقّل بين القارّات لتوثيق «الجمال المتلاشي الذي يقدّمه كوكبنا» في محاولة منه لتنبيه الإنسان إلى حقيقة أن حيوانات كثيرة باتت على شفير الإنقراض، حيث سلّط السيد زغزغي الضوء على العدد الهائل للأقنعة ولأغطية الوجه والألبسة الوقائية التي جرى التخلّص منها عشوائيًا في البيئة منذ تفشي الوباء.
وأشار السيد زغزغي من طبيعة عمله إلى ما لا يتمّ تسليط الضوء عليه، ألا وهو أن الحرّاس المؤتمنين على حماية الحياة البرّية وجدوا أنفسهم فجأة غير قادرين على أداء واجباتهم بسبب قيود الإغلاق، ممّا ترك الحيوانات البرّية مكشوفة في موقف الحلقة الأضعف أمام جشع الإنسان اللامسؤول، مؤدّيًا إلى إرتفاع وتيرة الصيد الجائر خلال فترة الوباء من قبل الصيّادين غير الشرعيين الذين إستغلّوا فرصة خلوّ المحميّات الطبيعية من المراقبة. وأضاف السيد زغزغي أنه أيضًا بسبب الوباء الذي أثّر في حماية وحراسة المواقع الجغرافيّة الهامّة أمثال الأمازون وبانتانال، تزايد عدد الحرائق المفتعلة بعد قيام المزارعين بحرق المزيد من الغابات والأراضي لإنشاء الأراضي الزراعية والمراعي لغايات ومنافع شخصيّة.
أمّا السيد أنطوان تيان، وهو رئيس «نادي العلوم» الذي يهدف إلى تعزيز التعاون العلمي وإنشاء مركز توثيق وقاعدة بيانات علميّة كما خلق الوعي بين المواطنين اللبنانيين حول مسؤوليّتهم تجاه المشاكل البيئية، فأكّد أن الإغلاق التام أثبت أن الإنسان هو العنصر الوحيد في النظام البيئي الذي يتسبّب بالأذى للطبيعة، وذلك نتيجة تمرّده على النظام البيئي، ومحاولة خروجه من الدورة البيولوجية الطبيعية في صراعه لإثبات إستقلاليته وسيطرته، بينما بقيت جميع المخلوقات المتبقية في وئام وتوازن بيولوجي وضمن القواعد والهيكليّات الطبيعيّة. وذكر السيد تيان أن الوباء أعطى الطبيعة، في جوانب معيّنة، فترة إستراحة من ممارسات الإنسان، إلا أنّه مع ذلك، فقد أدّى الحجر المنزلي إلى تضخّم في التلوث الناتج من المخلّفات المنزلية، الذي ثبت وبحسب الدّراسات البيئيّة الحديثة أنّه أحد أخطر أنواع التلوّث. كما يبحث «نادي العلوم» حاليًا في الصلة المباشرة بين إرتفاع حالات الإصابة بالسرطان والتلوّث الناتج من المخلّفات المنزليّة والإستخدام المكثّف للمواد المعقّمة والمطهّرة. أخيرًا، يسلّط السيد تيان الضوء على الفلتان الذي يسود قطاع البيئة في لبنان، من حيث الصيد الفوضوي للطيور المهاجرة، تعذيب وقتل الحيوانات، وإنتشار ظاهرة «الناشطين البيئيين» غير المتخصّصين الذين يدلون بمعلومات علميّة بيئيّة مضلّلة تشوبها الكثير من المغالطات لأنّها غير مبنيّة على أبحاث علميّة موثوق بها.
تربط نتائج الأبحاث الحديثة بين تلوّث الهواء وإرتفاع معدّلات الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا، حيث تقدّر منظّمة الصحة العالمية أنه من خلال الحدّ من عوامل الخطر البيئية والإجتماعية التي يتعرّض لها الإنسان كنتيجة مباشرة للتلوّث ولتغيّر المناخ، فإن ما يقارب ربع العبء الصحي العالمي، أي ما يقاس على أنّه خسارة ناتجة من مرض أو وفاة أو تكاليف ماليّة، بالإمكان تجنّبه.
مع ذلك ، فقد دقّ الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريس» ناقوص الخطر لمستقبل كوكب الأرض، قائلاً إن الأهداف الوطنية للتصدّي لأكبر تهديد لكوكبنا، وهو تغيّر المناخ، بعيدٌ كامل البعد عن المكان الذي ينبغي أن يكون فيه. «غوتيريس» شدّد على أنّ عام 2021 هو «عام النجاح أو الإنهيار» من حيث مواجهة حالة الطوارئ المناخية العالمية.
برنامج الأمم المتحدة للبيئة «UNEP «، بصفته الصوت الرسمي في ما يخصّ البيئة داخل منظومة الأمم المتحدة، بمهمّة لمساعدة الدول الأعضاء فيه على الإرتقاء إلى مستوى التحدّي المتمثّل في تحقيق مستقبل أفضل. كما توصّلت دراسة استقصائية دولية أجرتها وكالة الأبحاث المستقلّة «Ipsos MORI » إلى أن سبعة من كل عشرة أشخاص يرون أن تغيّر المناخ على نفس القدر من الخطورة بوباء كورونا، مؤكّدين أنّ حكوماتهم ستخيّبهم إذا لم تتّخذ الإجراءات الضروريّة بشأن تغيّر المناخ على الفور، كما تبيّن أن الثلثين يدعمان الإقتصاد الأخضر للتعافي من الأزمة البيئية.
خلص المنتدى الإقتصادي العالمي إلى أن جائحة كورونا قد نشأت بالفعل بسبب علاقة الإنسان المختلّة وغير المتوازنة مع الطبيعة، حيث ورد أن إستمرار إزالة الغابات وفقدان الحياة البرّية يتسبّبان في زيادة الأمراض المعدية، كما وتظهر الدّراسات أن الطبيعة توفّر حاجزًا منيعًا بين الإنسان والأمراض، وبالتالي، بما أنّ كورونا والطبيعة مرتبطان، كذلك يجب أن يكون التعافي منه.
إن واقع البيئة اليوم كارثي، ووجودنا مهدّد بالإحتباس الحراري، التلوّث السامّ، والفقدان السريع للمساكن الطبيعيّة والتّنوع البيولوجي. إن عدم التصرّف الفوريّ هو خذلان للبشرية. معالجة جائحة فيروس كورونا الحاليّة وحماية أنفسنا من التهديدات العالمية المستقبلية المماثلة يتطلّب إدارةً حكيمةً وتعهّدًا واضحًا بإنقاذ الطبيعة حول العالم، من خلال التحكّم بالنفايات الخطرة، الحفاظ على التنوّع البيولوجي، خلق وظائف خضراء، وتمكين الإنتقال نحو إقتصاداتٍ خاليةٍ من الكربون. مستقبل البشرية يعتمد بشكل عميق على العمل الفوري لتأمين مستقبل مرن ومستدام لنا وللأجيال القادمة.
Views: 9