تكفي نظرة على المشهد الآسيويّ من موقع عيون الجغرافيا السياسية، لرؤية أن القوتين الدوليتين الصاعدتين في آسيا، الصين وروسيا تقعان في الجغرافيا على أقصى الطرفين الشمالي والشرقي، وتواجهان رياح الغرب وتتأثران بها مباشرة، بالتماس الروسي الأوروبي المباشر عبر بحر البلطيق، والتماس الصيني عبر بحر الصين مع اليابان وأوستراليا أو مباشرة عبر كوريا الجنوبية، بينما تشكل إيران قلب آسيا الاستراتيجي المستقر، حيث لا دولة أخرى في آسيا تملك ما تملكه إيران من موقع القلب في وسط أكثر من عشرين دولة آسيوية، بين دول شكلت تاريخياً جزءاً من بلاد فارس ولا يزال بعضها ينطق بالفارسية، ودول تشاطئ إيران عبر بحر قزوين والخليج، ودول تملك حدوداً برية مباشرة مع إيران، بحيث نكاد لا نجد دولة آسيوية تبعد عن إيران أكثر العبور بدولة أخرى، وفي حالات نادرة بدولتين فقط، ما أتاح لإيران عبر التاريخ مكانة ودوراً كبيرين، ويمنحها اليوم الفرصة للتكرار.
ينظر الأميركيون بعين العناية للثلاثي الروسي الصيني الإيراني، قبل تفكك الاتحاد السوفياتي وبعده، ويقول مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغينو بريجينسكي الذي رعى استيلاد تنظيم القاعدة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، إن أحد أبرز أسباب الاهتمام الأميركي بأفغانستان هو كونها الرابط الجغرافي المباشر لثلاثي روسيا والصين وأفغانستان. وبعد أربعين عاماً يقول مستشار الأمن القومي الحالي جاك سوليفان، إن أحد أسباب التردد بالإنسحاب من أفغانستان لا يزال الخشية من تحولها الى نقطة تلاقٍ بري مباشر بين الثلاثي الآسيوي الصاعد، روسيا والصين وإيران، لكن من يتابع عن كثب التطورات الآسيوية سيكتشف أن حروب الشبكات التي شهدتها آسيا خلال ثلاثة عقود أعقبت سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، قد حسمت بعكس الرغبة الأميركية، ولم تعد ممكنة العودة بها إلى الوراء.
خاضت واشنطن حروب أربعة أنواع من الشبكات للسيطرة على آسيا، الأولى هي شبكة القواعد العسكرية التي توزّعت من أفغانستان الى كوريا الجنوبية وباكستان واليابان وصولاً الى السعودية وقطر وتركيا وأذربيجان، والعراق ولاحقاً سوريا، وليس صعباً اكتشاف ان هذه القواعد لم تشكل أساساً لتوسيع النفوذ وإحكام السيطرة، بل تحوّل بعضها الى أعباء يجب على السياسات البحث عن سبل حمايته كالسعودية وقطر، أو التفكير بإغلاقه، كأفغانستان والعراق وسوري، أو البحث بمبرّرات بقائه كتركيا وأذربيجان وباكستان، والشبكة الثانية هي شبكة أنابيب النفط والغاز، التي شكل أنبوب كازاخستان – تركيا، أهمها، وقد تجاوزته التطورات التجارية في مجال الطاقة، ومشروع أنبوب قطر لنقل الغاز الى أوروبا عبر سوريا، الذي بقي على الورق بسبب خسارة الحرب على سوريا، ومشروع أنبوب الغاز المصري الإسرائيلي اليوناني القبرصي نحو أوروبا الذي يواجه أسئلة حول الجدوى الاقتصادية، وحول الشروط القانونية الآمنة، بسبب ترسيم بحريّ بين تركيا وليبيا يقطع عليه طريق أوروبا، أما الشبكة الثالثة التي راهنت عليها واشنطن في مرحلة الربيع العربيّ وما تلاها في الحرب على سوريا، فهي شبكة تنظيم الأخوان المسلمين وتنظيم القاعدة ولاحقاً داعش، ويعترف الأميركيون اليوم بفشل هذه الشبكة بتحقيق إنجازات، رغم امتدادها وانتشارها عبر العديد من دول آسيا، وصولاً لأفريقيا، أما الشبكة الرابعة التي حملها الأميركيون تبعات فشل حروب شبكاتهم الأخرى، وراهنوا على تعويض هذا الفشل عبرها، وهي شبكة العلاقات المصرفيّة التي تمثل واشنطن عقدتها الدولية الأهم، ونتج عن الإفراط الأميركي في استثمار هذه الشبكة تحت عنوان العقوبات، بدء خروج كتل آسيويّة كبرى اقتصادياً، من مظلة الدولار نحو بدائل مثل التبادل العيني أو بالذهب أو التبادل التجاري بالعملات الوطنية، كما أعلنت روسيا والصين وإيران، ولا يمكن النظر للتوجه الأميركي الأوروبي نحو إعادة تفعيل الاتفاق النووي مع إيران إلا بصفته اعترافاً صريحاً بفشل سياسة العقوبات، وعبرها فشل الاستثمار على الشبكة المصرفية لدرجة تحول الاستثمار الى سبب لتهديد فائض القوة الذي يمثله الحضور الأميركي في النظام المصرفي العالمي.
خلال عشر سنوات نهضت شبكات استراتيجية أخرى، تقف وراءها روسيا والصين وإيران، وهي تتمدّد على مساحة آسيا وتتكامل في تأثيراتها، أولها شبكة الـ أس 300 والـ أس 400، التي تمثل شبكة أمن استراتيجي تتميّز بقدرتها على التواصل في ما بينها عن النماذج الأميركية والغربية الموازية، وهي شبكة تمتدّ من روسيا والصين والهند وإيران وتركيا وسوريا، بما يتيح مسح أمني عسكري للبر والبحار والمحيطات على مساحة آسيا تقريباً، وتشكل مصدر قلق أميركي مستديم لم يفلح بثني تركيا والهند عن امتلاكها رغم المغريات والعقوبات، وبالتوازي شبكة تجارية صينية تترجم موانئ وخطوط سكك حديد وطرقاً من سيرلانكا الى باكستان وماليزيا وإيران وصولاً الى سورية وتركيا وروسيا، أما الشبكة الثالثة فهي شبكة أنابيب الغاز والنفط التي تمتد من إيران الى الصين ومقابلها من روسيا الى تركيا، وبالتوازي تطلع روسي نحو قطر ومصر لاحتواء المصالح التي تعقدت بربطها بالشبكات الأميركية، أما الشبكة الرابعة فهي شبكة حركات المقاومة التي تشكل إيران مركزها وتمتدّ من العراق الى سوريا ولبنان وفلسطين وباكستان وأفغانستان واليمن، بحيث تغطي الشبكات معاً، مساحة آسيا تقريباً.
يأتي الاتفاق الصيني الإيراني الاستراتيجي، رغم أهميته الفائقة على الصعيد الثنائي الاستراتيجي، ليفتح الأفق لتحويل إيران إلى قاعدة ارتكاز لتقاطع الشبكات الأربع كمحطة لتعميم تشارك هذه الشبكات على مساحة آسيا. ففي سوريا حيث تلتقي شبكتا الـ أس 400 و300 مع شبكات المقاومة ينتظر وصول الشبكة الصينية الاقتصادية، وظهور مسارات لشبكة الأنابيب، وفي العراق حيث تتواجد شبكة المقاومة يستعيد العراقيون الأسئلة عن أسباب التخلي عن الاتفاق الاستراتيجي مع الصين وعن شبكة الـ أس 400، وفي لبنان أسئلة مشابهة تحتاج أجوبة يقدمها المستقبل.
بعيون هذا المشهد الجديد يمكن قراءة العودة الأميركية الى الاتفاق النووي الإيراني بمعانٍ أخرى، كما يمكن التخفيف من الأوهام حول طبيعة التوجهات الاقتصادية التي تعبر عن توجهات تحاكي مستقبل التطورات.
Views: 5