احتاج الأمرُ لوقتٍ طويلٍ، وربما بدا طويلاً جداً حتى جاء زمن الشاعر أبو النوّاس، ليخلخل “لزوميات” لزمت بها القصيدةُ نفسها، أو الأصح لزم الشعراءُ أنفسهم بها “دون لزوم” لذلك، ومنها على سبيل المثال (المُقدمات الطللية)، بمعنى لابدّ للشاعر في شبه الجزيزة العربية، من أن يقف على أطلال الحبيبة التي غادرت (حماها) فجراً، إلى حمى جديدة .. يقفُ هناك عند تلك الأطلال الدارسة التي لا تتعدّى بقايا أوتاد لبيوت الشعر، أو نتفاً من هذه البيوت، وبعض (الأثافي) المُشحرة لكثرة ما أشعلت النارُ بينها لتسخين القدور.. على أطلال الحبيبة هذه، كان لابدّ للشاعر العربي أن يجمع (خلانه) ليشاركونه النواح والبكاء للفراق المُر، مع أن الحمى الجديد لقبيلة المحبوبة قد لا يتعدى الكيلو مترات القليلة.. غير أنّ ذلك (النسيب)، أمسى تقليداً لابدّ منه ليُشكل المقدمة الطللية العاطفية للقصيدة العربية، وعلى أي بحرٍ جاءت، ومهما كانت أغراضها وشواغلها.. تلك كانت (قاعدة) شعرية لم يزحزح أركانها شاعرٌ على مدى قرونٍ طويلة، حتى قيّد للشعر فارسُ القصيدة في الزمن العباسي، وهو أبو النوّاس، والتي أزاحها بطريقة ساخرة وتهكمية، وبطريقة من أسلس ما يكون:
عاجَ الشَقِيُّ عَلى دارٍ يُسائِلُها
وَعُدتُ أَسأَلُ عَن خَمّارَةِ البَلَدِ
لا يُرقِئُ اللَهُ عَينَي مَن بَكى حَجَراً
وَلا شَفى وَجدَ مَن يَصبو إِلى وَتَدِ
وبعد هذه القصيدة العصماء، التي تُعتبر بياناً أدبياً ليس في الشعر وحسب، بل وفي النقد العربي، ذلك أنها أحدثت تحولاً في شكل القصيدة العربية، ومنعطفاً ساحراً في سموها وتصاعدها..
هذا على صعيد الشكل الشعري، وقليلاً في بنية القصيدة، ذلك أنه سيمرُّ وقت طويلٌ أيضاً، وحتى النصف الأول من القرن العشرين، حتى يقتنع الشعراء، إن الشعر ليس بالوزن والقافية فقط، حتى مقدم قصيدة التفعيلة على يد رائد من روادها، وفي بغداد أيضاً – كما أبو النواس – وهذه المرة على يد الشاعر بدر شاكر السيّاب، الذي سيشغل النقاد في مقارنة لا طائل لها في موازنة بين تشبيهين شعريين: بين (العيون الحور) لـ جرير في العصر الأموي، وبين (العيون الغابة نخيل) للسيّاب، حيث الشعرية العالية مالت لكفة الثاني رغم الإيقاع الذي سحر العرب لقرون طويلة:
إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ
قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا
يَصرَعنَ ذا اللُبَّ حَتّى لا حِراكَ بِهِ
وَهُنَّ أَضعَفُ خَلقِ اللَهِ أَركانا
هذا ما اجادت به عبقرية جرير بن عطية بن حذيفة الخَطَفي بن بدر الكلبيّ اليربوعي، من تميم، الذي أعتبر أشعر أهل عصره، حيث ولد ومات في اليمامة، وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم – وكان هجّاءاً مرّاً – فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل، وهو من أغزل الناس شعراً، كما تُسجل له المدونة الشعرية العربية.. ورغم ذلك جاء الشاعر بدر شاكر السيّاب إلى هذه الدنيا مريضاً حزيناً، ومع هذا فقد تفوّق في بلاغته على الشاعر القديم الذي شغل العالم بقصيدته:
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر.
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء… كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
واليوم ليس من شاعرٍ، لا يعتبر نفسه بداية التجديد والحداثة، و..إنه مكتشف الغابات البكر، وبراري الإبداع العذراء، غير أنّ المتابع للمشهد الشعري العربي، منذ ما قبل الإسلام، وحتى بعد مرور عقدين على بداية الألفية الثالثة، يجدُ أنّ القاموس الشعري في العالم العربي، يكادُ ينهل من المحترف ذاته، و..السهول كأنها صارت جميعها متعارفٌ عليها..!!
سهولٌ متعارف عليها
و.. في استعراض عشرات المجموعات الشعرية اليوم، فإنه لوهلةٍ يشعر فيها المرء، وكأن كل الأمور وصلت إلى خواتيمها.. حالة من العبث تسود اليوم، تجعلك تسأل بكامل الخيبة، وماذا بعد؟؟! فكل “الأشياء” فقدت دهشتها، أو لم تعد تستطيع الإدهاش، تسأل ما هذا “الكائن” الذي لم يعد يعجبه شيئاً، وتحتار كذلك، هل “الإشكالية” في هذا الكائن – المتلقي، أم الأشياء ذاتها التي وصلت إلى منجزها النهائي، وأقصد بـ”الأشياء” هنا كل المنجزات الإبداعية، وعلى مختلف الصعد كلها، لاسيما على صعيد القصيدة..!
إلى اليوم لا يزالُ الشاعر العربي، يُشبّه عيون حبيبته بعيون المها والغزلان، أو بعيون بقر الوحش، أو يشبّه وجهها بالقمر، وقدّها بالنخلة، ألا يثيرُ في الأمرِ التباساً ما، هل الشاعر هنا، يتغزّل بعيني حبيبته، أم بعيون تلك الحيوانات، وقدودِ تلك الأشجار..؟! وهل ضاقت اللغة بالشاعر حتى لم يعد يجد أمامه غير هذا التشبيه البائس، ألا يُفترض أن يكون جمال الحبيبة الخالص، كافياً لأن يُنشئ لغةً تعبيرية ثرية، تعطي الدفع الكافي ليتغزّل بجمال عينيها، وقدّها الخالصين، بدل الاتكاء على تشبيهات، هي بنظر “العاشق” الحق، أقل من المشبّه..؟!
و.. كأنّ الشاعر العربي مايزالُ يعيش في مضارب بني عبس، أو ذبيان، ولا يزال يعبرُ الفيافي على ظهور النوق، ويرعى الظعن، ويُطاردُ نساء القبيلة عند عيون الماء..!! فما بالك بمن مايزال يستخدم التركيب عينه من أكثر من ألف وثمانمئة سنة كا(لله درك، أو ليتَ شعري، أو بأبي أنتَ وأمي…) وغيرها!!
زمن القبيلة
و.. مع أن الشعر كان الجنس الأدبي الأقدم لدى العرب، ومنذ زمن القبيلة العربية، بدأ الاهتمام الشديد بهذا الجنس الإبداعي الذي كان يخدم السلاطين في معظم نتاجه، لاسيما في مرحلة الدولة الإسلامية، وبعدها، كانت القصيدة العربية تتقهقر، وإذا كانت القصيدة العربية وصلت ذروتها مع المتنبي، فإنها بعد ذلك باتت تنعم في النظم وحسب، وليس الشعر، حتى مجيء أصحاب الكلاسيكية الجديدة بداية القرن العشرين، غير أن هذه المرحلة كانت شبه منجز ضمن زمن وأفراد بعينهم، أتمت برحيل الشاعر نديم محمد وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل ونزار قباني، وكان أن انتهى زمن القصيدة الكلاسيكية الموزونة العمودية، ومع فضاءات قصيدة التفعيلة، ومن ثم قصيدة النثر، تكون القصيدة الكلاسيكية قد استنفذت إيقاعاتها ومعظم جماليتها، مع ذلك فإن البعض لا يزال يصر على تكرار الإفلاس ذاته مع كل قصيدة نظم، تماماً كمن يصر على السكن في خيمة بدوية وسط مدينة معاصرة..!
و..على ما يرى الشاعر محمد عُضيمة، فإن اللغة لاسيما العربية، ولتداخلها مع العامية، وانفصالها في آن، فهي كـ”زحليطة” تورط صاحبها بمسائل لا تنتهي، ويعتقد أن كتابة الشعر بالعربية اليوم، وإنتاج نص مغاير جديد، وحديث، أصعب منه في أية لغة أخرى، والسبب بتقديره: تراكم خبرة هذه اللغة شعرياَ على امتداد أكثر من خمسة عشر قرناَ، وماتزال مستمرة بالزخم نفسه، وبالقيم نفسها تقريباَ.. إذ يكفي أن نسترجع معارك الرواد وغيرهم في خمسينات وستينات القرن الماضي مع “أصوليي” اللغة، حتى نكتشف أن القيم الجمالية التي حاول الرواد تجاوزها قليلاَ، أي التجديد والتغيير بعض الشيء، ومن ثمّ إثارة الزوابع النقدية حولهم، هي القيم نفسها التي كانت شرطاَ من شروط الشعرية القديمة.
شعرية الهروب
و..اليوم فإنّ جرداَ بسيطاَ لعناوين المجموعات الشعرية الصادرة منذ منتصف القرن الماضي إلى اليوم، العناوين فقط ستحيلنا إلى كآبة وسوداوية، إنها شعرية القنوط، اليأس، التأفف، التبرم، وهي – بتقدير الكثير من النقاد – شعرية الهروب على أجنحة الذهنية، وإغماض العين، إنها شعرية الماضي، بثياب غير موزونة، لذلك هم يؤكدون، إن حداثتنا الشعرية محض وهم..! وهذا ما دفع صاحب “شارع الألبسة الجاهزة” ومنذ بداية التسعينات لإعادة النظر في كل ما كتب سابقاَ ليقول ويعيش على ضوء تفعيل الحواس الخمس التي كانت معطلة بفعل التربية الذهنية، أي إعطاء الأهمية للفكرة على حساب الواقعة، أو إلغاء الأخيرة بتجاهلها..!
الحالة هنا لها عشرات الأسباب، لا يتسع المجال هنا لذكرها، لكن و..كرهبةٍ ما، تشبه “القداسة”، هي السمة الغالبة على النظر للأشياء في العالم العربي، وأعتقد أن مثل هذه “الرهبة” هي من الأسباب التي حدّت من المبادرة، والإضافات الجديدة، سواء في الإنتاج الإبداعي الخلاق، أو حتى في الاشتغال على الإبداع المتوارث.
فهذه الرؤية من التفكير، تخلق نوعاً من العطالة الفكرية، باعتبار أن الأفكار والأعمال الإبداعية السابقة منجزة، ومنتهية، وليس من مجال على أية إضافات جديدة، أو حتى تعديلٍ بسيط، وليس على “الخلف” إلا المراوحة والسير على ما أنجزه “السلف” أو..على مبدأ “اعمل على هذا النحو”.!
Views: 2