علي الزعتري
الحالة العربية واختلاف المواقف بشأنها وكثافة الاتصالات والاجتماعات العربية العربية والعربية الصهيونية والعربية الغربية للتشاور أو حتى التآمر تبدو منطقيةً بعد حرب سيف القدس. حربٌ أخلَّت بميزانٍ أقَلُّهُ معنويٌ عند الطرفين حين ارتفعت فيه ولو مؤقتا الكَفَّةُ والكوفيةُ الفلسطينية ومعها العربية بألوانها على الكفة والقبعة الصهيونية. وأضافت بُعْداً مهماً في الروح القتالية والسلاح المقاوم. اختلال التوازن بهذه المرحلة لا يعني الاطمئنان لبقائه لصالح المقاومة، وإن همدت القبضة الصهيونية مرحلياً فإنها لا شك لن تهمدَ طويلاً وأظنها ستنقل ثقلها الضارب لمنابع تسليح وتمويل وتدريب المقاومة بالتوازي مع استهداف القيادات والمؤثرين بالاغتيال وعمليات التجسس التخريبية. الصهيونية و كل معاونيها لن تقبل مرمغة سمعة الجيش الذي لا يقهر و لا تهديد أو تكبيل أذرعها الطويلة. و لذلك لا أعتقد أن استدعاء وزير العدوان الصهيوني لواشنطن كان للطلب منه تقييد حركة رئيس وزراء الصهيونية بل للبحث فيما سيؤكد السطوة الصهيونية و للتحضير للفصول القادمة من صراعات الكبار و الصغار في هذه المنطقة.
لكن الحال العربي ليس مقتصرا على الحالة الفلسطينية، على مركزيتها عروبيا وإسلاميا و مسيحيا. الحال العربي تتناوب عليه المشاكل من خليجه لمحيطه وكل مشكلة لوحدها وبحدود تأثيرها كافية لجمع العرب على قول وفعل متحد، لكن هيهات. الحال العربي لا تداويه اليوم أفعال ومطامح الأمم بقدر ما تتغلب عليه الفردية الأنانية المحبطة. جولة في هذا الحال لنكأ الجراح تحت عنوان وجودي: من نحن؟
تلغى أو تؤجل الانتخابات الفلسطينية لكن تمحو ذكراها سريعا معركة سيف القدس التي تنال السلطة في سمعتها من سهام النقد والتخوين و تصارع السلطة لتبقى مؤثرة بينما المارد الغزاوي يتعاظم. حال الفلسطينيين المتشتت والمتناحر لا يطمئن إلا عدوهم. الفلسطينيون يريدون الحرية و لو أتت مضرجة و لا يريدون التعايش كالعبيد و السلطة لا تريد مقاومة مضرجة بل لوثرية غاندية. أخشى أن بين السلطة والمقاومة خندق من الاختلاف في الهدف والوسيلة لا تملأه حوارات.
وتبرز نتائج الانتخابات الرئاسية السورية في معادلات المنطقة في تحدٍ واضح للموقف الدولي الذي أرادها بعد صياغة الدستور ولإحلال سوريين بدلاً عن سوريين في القيادة نكاد نجزم أنهم لو أتوا سيكونون بولاءات غربية. لكن هذا لم يحصل. ولا بد من أن استمرار الدعم السوري للمقاومة والتصريح الواضح بشأنه بعد الانتخابات يجعل سوريا هدفاً مكرراً للعدوان الصهيوني. شئت أم لا فسوريا واضحة في تشبثها بسيادتها، التي تمثلها الانتخابات، و سواء رضيت بها أم رفضتها، فإن عنوان السيادة يتلخص لها بالتالي: سوريا التي تحتل أراضيها كلاً من الصهيونية والولايات المتحدة وتركيا، وميليشياتٍ مناوئةٍ تختفي وتظهر تحت مسميات مختلفة لا يجمعها إلا التطرف الذي يهدد المنطقة مثلها مثل الصهيونية، لهي سوريا التي يواجه شعبها حصاراً وتحتاج لإعادة إعمار و تحرير أراضيها وعودة ثرواتها. المجتمع الدولي يقايض سوريا بالتنازل عن قرارها مقابل الإفراج الاقتصادي الذي تخشى العرب من “قيصر” أن تبادر به. والجميع من الدول المانحة المؤثرة والأمم المتحدة تغيب وتصحو على ضرورة بقاء المعابر الإنسانية مفتوحة مع تركيا وعلى الحوار السياسي الضروري لكنها تغمض العيون عن حصار واحتلال وسرقة نفط و منع لإعادة الإعمار و لو زالت هذه الموبقات لما بقي أزمات إنسانية و لربما كان سهلا عندئذ أو أسهل الولوج بحوار سياسي مثمر.
وكذا التناوش العراقي الذي يهدأ و يشتعل بين أجنحة الحكم من جهة و بين الحشد الشعبي و مزيج القوى المسلحة حول الوجود الأمريكي عنواناً رئيسياً و لكن بشكلٍ أدق حول هوية البلاد و سياساتها: أهي في الظل الإيراني أم الأمريكي أم هو العراقي الذي يجب أن يلقي بالظل؟ مما يضع رئيس الوزراء الذي يجاهد لاكتساب مكانة أكثر قبولا إقليميا و دوليا عن من سبقوه في مرمى التصويب عليه و مما يخلخل العراق على أُسسٍ مختلطة بينها ما هو وطني و ما هو انتهازي و يُبعد العراق من دوره الإقليمي في التعاون مع مصر و الأردن و هو التعاون الواعد لو أثمر و في الحوار السعودي و العربي الإيراني و حتي في دوره المقاوم للصهيونية الذي تراه جهات عراقية و خارجية انتقاصا من مركزية السلطة. كل هذا يجعله أقل حيويةً و تأثيراً مما بدا قبل أشهر. ضف عليه أزمات ما كان يجب للمواطن أن يعانيها في معيشته وضراوة الفساد و تذبذب العلاقات المتوترة مع الشمال شبه المستقل و عودة الإرهاب الداعشي و التغول التركي المستمر.
و في الأردن تُدارُ دفة البلاد بمهارةٍ واثقة لكن قلقةٍ. ربان السفينة يجاهدُ لإبقاء البلاد أولا، خارج إعصار فتنةٍ غير مسبوقةٍ أو مفهومةٍ. فيها يمتزج المكون النرجسي والعشيري، والإقليمي و زاد عليه الوصائي الديني على المقدسات ، كله موحياً أو مصرحاً بالحاجة لتغيير بالأردن و أساسيات الحكم فيه و خالقاً حالات داخلية مناطقية مرهقةً في أسبابها و طرق معالجتها و مرفوضة في تبعاتها فهي عبرت خطوط المسموح به بالأردن المتوازن. وتعصف الأحوال الاقتصادية الخانقة وتنبؤات الجفافٌ المائي و شؤم الترقبٌ لتبعات موجة كورونا جديدة بأفكار المسؤول، والمواطن دائم الشكوى والتوجس. لم لا والإعلام يُمطِرُه أخباراً عن مزيدٍ من غلاء المعيشة والتبعية المالية المستندة على الديون والمعونات. وثانيا، يجاهد الربان في كل ما يخص فلسطين ومحتلها الصهيوني. وهو شأن الأردن الأساسي.
في هذه الأثناء لبنان يغلي بلا حكومة معتدٍ بها تملك زمام قرارها، و يقارع سياسيوها تجاذبات مصلحية تقترب لحدود التفاهة مما يُشعِرُ المراقب بهامشية البلاد و فئاتها السياسية التي تفاوض حول مرابح و مخاسر إقطاعيةِ التوجه بينما يكتوي المواطن جهاراً نهاراً. المبادرات العربية لمساعدة لبنان مشلولة فعلياً والمبادرات الغربية رفعت اليدين استسلاماً مخططاً له وزادت من ضغوطها الاقتصادية المحاصرة آملةً فعلاً بحصول انفجارٍ محليٍ محسوب لا يقود لحربٍ أهلية بتبعات إقليمية لكنه يكفي لإعادة موازين القوى الداخلية. مقامرةٌ شرسةٌ ولعبٌ بنارٍ لو بدأت قد لا تنتهي لكن المخطط لا يأبه بمن يحترق شأنه شأن ما حدث في العراق وسوريا.
في الجنوب العربي تتكلم صنعاء عن معارك موجعة مع السعودية داخل التراب السعودي لكن معظم معاركها في الأراضي اليمنية في حربٍ لا منتصر فيها سوى الموت، وتثيرُ صنعاء الأخبار عن قواعد للإمارات في إحدى الجزر وسيطرتها على الجزيرة الاستراتيجية سقطرى، بل و فتحها للسياحة الإسرائيلية! ويغادرها المبعوث الأممي خالي الوفاض لمنصبٍ أعلى وأهم تماماً كما من سبقه فكأنما سعادة اليمن لا تغشى إلا الخارجي ويبقى بؤسها للمواطن. متى تنتهي هذه المأساة وعلى يد من؟ لا أحدَ يعلم لكنها مرتبطةٌ بالصراع الإقليمي الخليجي واليوم بالصراع مع الصهيونية و لا يمكن فصلها عن البحر الأحمر و موانئه و قواعده.
أما مجلس التعاون الخليجي بأعضائه الستة فهو يناور للبقاء في منطقته المأخوذة بالخلافات والمواقف المنفردة. لم نعد نسمع منه إلا عبارات المديح بالأخوة والترابط لكن الواقع لا يقول ذلك. يسكت المجلس عن التطبيع وتنفرد الكويت بمبدئها رفض كل أشكال التطبيع مع الصهيونية، ويبادر مفتي سلطنة عمان بنفس الروح لكن كأنه منفصل عن سياسة بلاده. أما الإمارات والبحرين فتطبيعهما بات ساطعا وجريئا، بل وقحا. وتمارس قطر سياسة المتواصل مع الجميع على مبدأ رأب ما تصدع وإثراء ما بنت من العلاقات وتستثمر بعرض عاصمتها موقعا للقاءات بين الأطراف كان أبرزها استضافة إسماعيل هنية. و تبقى السعودية تصمت و تصرح و تميل و تستوي في مد و جزر سياسي و إعلامي رسمي لم يعد واضح التوجه سوى من معركتها اليمنية التي لا تستطيع الانتصار فيها.
إلى الغرب قليلاً يتأهب السودان بخطى مختلفة بعضها طموحٌ متفائل لتطوير علاقات مع الغرب وبناء استثمارات، ولكن ليس من دون تهديدات داخلية، منها اقتتال لا يهدأ في دارفور وتهديداتٌ إقليمية مثل التوتر الشديد مع الحبشة. الحال السوداني اليوم لا يختلفُ كثيراً عن حكم البشير في خريطة السيطرة على زمام الحكم. لا يزال الجيش يحكم. الذي اختلف هو في التنازل للتطبيع العلني مع الصهيونية التي فتحت البوابات نحو الخروج من مآزق الاقتصاد المتردي وتبني حسنات التمويل الدولي؛ وتوزيع الولايات محاصصةً مكافئةً للحركات المسلحة التي ناوئت البشير؛ وحكومة مدنيةٌ هي في الواقع واجهةٌ مقبولة للخارج لِسَوْقِ السودان للانفتاح السياسي والتمويلي و للداخل هي المصَّدُ للانتقادات الشعبية الموروثة من ثوران الشباب و التي لا يجب أن تطال الحاكم الفعلي و هو الجيش. ماذا تخبئُ الأيام للسودان في ظل هذه المحاصصات يبقى مثار خوفٍ وتساؤل لبلد لا تغيب عنه الدكتاتورية وإن بأسمال الديموقراطية التي يرضي عنها الغرب بكل نفاق طالما أن التطبيع هو عماد السياسة السودانية.
تدخل جيبوتي على الخط و هي الدولة الحاضنة قواعد عسكرية غربية متعددة وتعد بالتعاون مع مصر. كيف؟ ليس واضحاً. لكن مصر الممتدة دبلوماسياً وأمنياً وعسكرياً عبر أفريقيا لتطويق سد النهضة ولتحضير الساحة للأسوأ تجتهد لكي تحشد الدعم بأنواعه في معركتها مع عناد الحبشة، و جيبوتي مهمة و إن ليس بوضوح لمصر و السودان. جيبوتي وظيفياً هي في كونها قاعدةً للقواعد الغربية وتوفر لها ملاذات و ملذاتٍ يحتاجها الجنود. وهي لذلك محميةٌ واضحة و لن تريد أن تكون طرفاً بمعركة النيل. وتنكفئ أخبار الصومال المنقسم لثلاثة كيانات لوهلة ولا نستيقظ على خبرٍ من جزر القمر وهما دولتين عربيتين لمن يكاد ينسى.
أما المغرب العربي فملامح تنسيق موريتاني مغربي وتوتر مغربي جزائري مع حملة تسليح ومناورات كلٌ مع حليفه. ثلاثيةٌ بأنغامٍ نشاز على المستوى الجمعي المغاربي وخلاف لا يهدأ بشأن الصحراويين. توقظ تونس بدواخلها الحزبية خوفا من الانهيار الحكومي و انتشار الفوضى. وتتصاعد من ليبيا أدخنة الخلاف بين شرق وغرب. بعيدٌ قريبٌ المغرب العربي عن المشرق العربي. قلبُ فلسطين ينبض عند الناس هناك لكنه قلبٌ شتى فالتطبيع يمضي واثقاً في المغرب ووطأةُ قدمه تُسمعُ بباقي العواصم. الوصفة المعتادة غربيا لتركيع الرافض أو الممتنع للتطبيع هي بإثارة القلاقل الداخلية و قلبي على الجزائر و تونس و ليبيا فكلها مؤهلة للضغوط هذه لإيصالها لنقطة التطبيع.
في هذه البانوراما العربية البائسة ابحث وستجد إسرائيل. تتبعوا الخيوط الصهيونية وستربطونها بكل أزمةٍ عربية. هي المنتصرة من كل تباعدٍ عربيٍ وهي التي تزرع نفسها كالمخلص. تُريدُ مالاً، أو تقنيةً أو علاجاً أو تجسساً سيبراني أو تجارةً دوليةً متداخلة أو سياحةً أو طعاماً أو زراعة الصحراء أو الوصول للسياسي الأجنبي في مخدعه أو السفر للكواكب، عند إسرائيل العلاج. لكن إسرائيل اليوم تواجه مقاومةً فلسطينيةً وعربيةً شعبيةً ظنت أنها وأدتها. لذا فإن الهيستيريا تدور بالعقل الصهيوني حول وجود الكيان وزواله و تطيح بأحلام استقرارها في الوعي العربي عبر التطبيع. صاعقٌ ما ينشره الصهاينة أنفسهم عن تحليلاتٍ بزوال كيانهم سواء بنوا رؤاهم على التخيل الديني أم الحساب العقلاني. لكنه بات يُقالُ علناً. بالطبع لن تزول الصهيونية ولا كيانها بسهولةِ ما يُقال لكن بضعة رجالٍ في غزة اقتربوا بالنبوءة كثيراً لكبد الحقيقة. الهوس الإسرائيلي الآن في أَوْجِهِ و ورد الفعل كذلك.
في الذهنية الصهيونية الخائفة احتمال حربٍ أوسع وعندها ستكون مقالة الزوال قاب قوسٍ من التحقيق. رد الفعل الذي نتوقع هو باندفاعات صهيونية شرسة ومتتابعة للتطبيع مع دول عربية جديدة و تعزيز ما تم سابقاً و نتوقعُ كذلك استماتةً لضرب وتدمير مكامن المقاومة وقوة حلفاءها في العالم و بشتى الوسائل. ولا أستبعد أن تستخدم الصهيونية ما هو تحت يديها من سلاحٍ نووي في حملتها لدفع التهديد عنها. إنه السباق الصهيوني ليس لتركين مواطئ القدمين في جل المنطقة للجمها و منعها من التحور ضد الصهيونية لكنه السباق للبقاء الذي يُحتمُ ضرب كل منبعٍ محتملٍ لتهديد الكيان بضربات استباقية مميتة.
حالُ العالم والدول العربية يسمحُ بهذا التصور. لا أتصورُ أن الدول العربية ستُبالي كثيراً لو تغيرت أحوال محاور المقاومة جراء ضربات صهيونية استباقية مدمرة. بالعكس من ذلك فإن زوال المقاومة سيحل لكثيرٍ من العرب عديد العقد و يمهد للتطبيع المريح مع الصهيونية. و في العالم اليوم حين يتصارعُ أقطابه الكبار ليس فقط حول المكاسب الأرضية و لكن حول المكاسب ما فوق الأرضية في الفضاء الخارجي، من سيذرف الدموع لو فعلت إسرائيل فعلتها هذه؟ التخلص من مثيري المشاكل الإقليمية من دولٍ و من حركات مسلحة ربما سيصب بالصالح العام! أبهذه السهولة؟ التاريخ يقول أن ذلك قد يكون. و لا يمنع التاريخ من أن يعيد فصوله إلا مقاومة الشعوب.
العبر التي أود أن أصل لها هي أن الوقت اليوم هو الأصعب والأشد مخافةً من تبعاته. أسد يهوذا ينتفض من الحبشة لفلسطين ولا ينبغي للسيف المسلول أن يُغمَدَ. ومن العرب من يرى أسد فارس يهدده و منهم من يراه تركيا. لكن المصالح العربية العربية و مع إيران و تركيا ينبغي أن تُعادَ للصواب، و لا أجزم أنها ستعود مع الحبشة لصواب يعوض عن خسارة النيل لمصر و السودان و أحسب أن البلدين لا بد متحركين لحماية النيل. في العموم، أقولُ أننا في سباق البقاء مهددين لكن بخسارة حقوقنا ما لم نصلح حالنا، و في هذا مثلنا مثل الصهيونية التي تخشى الخسارة و مقدرتها على سلب حقوقنا، لكنها تعملُ بعقلٍ واحد و تصميمٍ واحد و نحن نعملُ بعقولٍ و تصميمٍ متضارب و منا من يعمل مع الصهيونية ضد بعضنا. سابقاً قلتُ بحتمية عودة الوعي العربي وكلي ثقة أن غيابه هو بوابة الاندثار للعرب. هذا الوعي الذي يستدعي تنادياً عربياً يجب ألا يستثني لا عاصمةً ولا طائفةً. بغير ذلك، فإن الصهيونية لن تقبل لنا كيانا إن لم يكن من اختيارها. إن لم نقاوم. هكذا يقول التاريخ عن أممٍ سبقت، أذعنت واندثرت. وأمم قاومت فعاشت وانتصرت. من نحن؟
كاتب اردني وخبير سابق في الامم المتحدة
Views: 13