المهندس: ميشيل كلاغاصي
على الرغم من خطورة وحجم التطورات الميدانية جراء انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان , وسرعة اجتياح حركة طالبان وسيطرتها على غالبية الأراضي وعواصم الأقاليم الأفغانية , بما فيها العاصمة الرئيسية كابل , والسيطرة على القصر الرئاسي من دون عنف وإراقة الدماء , بعد فرار الرئيس أشرف غني “لتفادي إراقة الدماء” بحسب قوله , والحرص الذي أظهرته طالبان لإخراج مشهد تسليم السلطة السلمي والهادئ , تماهياً مع مواقف عديد الدول والعواصم من مغبة وعواقب سيطرة طالبان بالقوة والعنف , وبغض النظر عما سيحدث تباعاً , إلاّ أنه يبقى من الثابت أن واشنطن قررت الإنسحاب ونفذته قبل نهاية شهر اّب – كما سبق لها إعلان ذلك-, وبسرعة منعت من خلالها دول الطوق الأفغاني وغالبية دول الكبرى وتلك المتأثرة حكماً بمصالحها أو بأمنها عبر حدودها , من فرصة الإستعداد أو التدخل لإحتواء الوضع داخل أفغانستان والمحافظة على مصالحها , ولم تترك لها سوى المطالبة بعقد جلسة طارئة في مجلس الأمن لإعلان القلق والمخاوف وسط ارتباك الجميع وغياب الحلول الفورية , والإسراع بإخراج دبلوماسييها ومن تهتم بهم على غرار مشاهد إجلاء السفير الفرنسي وسط الفوضى والخوف والإذلال … من الواضح أن واشنطن أرادت تثبيت صورة المشهد الداخلي والخارجي , دون مشاركة أوتدخل الأطراف الداخلية والخارجية على حدٍ سواء , لتبيث حكم طالبان ومنحها حصة الأسد قبل أي مفاوضاتٍ داخلية لتشكيل السلطة .
وبهذا يعود المشهد إلى المربع الأول والسؤال , لماذا قررت واشنطن الإنسحاب اليوم , وماهي حقيقة أهدافها ؟
للإجابة على هذا السؤال , لا بد من رصد عشرات الأهداف المحتملة للإنسحاب الأمريكي وبالشكل الذي رأيناه , والفوضى العارمة والمخاوف من الصراعات السياسية والعسكرية والإنفصالية والعرقية والإثنية والإقتصادية , التي ستصيب قلب اّسيا الوسطى أولاً مع احتمالية أن تتدحرج دوائر تداعياتها لتطال الدول الكبرى في المنطقة والعالم , بما يمنح الولايات المتحدة فرصة النيل من أعدائها وتعويض خسائرها إما تفاوضاً أو قتالاً وحروباً بديلة وبالوكالة في ساحات خصومها وأعدائها إنطلاقاً من الساحة الأفغانية وبمساعدة حركة طالبان… وعلى رأس أولئك الأعداء تبدو الصين هدفاً مركزياً ورئيسياً ويتصدر لائحة الأهداف الأمريكية في منطقة بحر الصين الجنوبي , دون أن ننسى استهداف إيران وروسيا , وبعض الدول الأوروبية , خصوصاً تلك التي بدأت التفكير الجدي بالإتجاه نحو الصين.
لم تخف الولايات المتحدة استيائها ومخاوفها من المشروع الصيني “مبادرة الحزام والطريق” , وأثره وأهميته في العالم على القارات الثلاثة: الآسيوية، والأفريقية، والأوروبية، وكذلك على منطقة الشرق الأوسط… والذي يشكل حجر الزاوية للإستراتيجية الصينية الجديدة الهادفة إلى استعادة دورها العالمي عموماً وفي القارة الآسيوية على وجه التحديد , وأثره في تحديد الملامح الجديدة لتوازنات القوى في النظام الدولي الجديد.
ولم تخف أصلاً , قلقها وتراجعها واحتمالية انزياحها عن مقعد القيادة العالمية لصالح “المارد الصيني” , ويكفي أن نعرف أن الأموال التي رصدتها بكين لهذا المشروع بكامل فروعه تفوق الـ 1.4 تريليون دولار , وبما يوازي 12 ضعف خطة مارشال، التي تبنتها الولايات المتحدة لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية , إضافة للقوة العسكرية المتزايدة للصين، فقد تعهد الرئيس “شي جين بينغ” بتحديث الجيش كي يصبح قادراً على القتال والإنتصار, وسبق لـ “وول ستريت جورنال” أن وصفته بالرئيس الأقوى في تاريخ الصين الحديث منذ عهد “ماو تسي تونغ” وبأنه “الإمبراطور الجديد للصين”.
ومنذ بداية العقد الماضي, لم تخف الإدارات الأمريكية المتعاقبة بما فيها الإدارة الحالية , مشاعرها ونهجها العدائي تجاه الصين , وتصنيفها بـ “العدو” , وسبق للوزير الأمريكي الأسبق مايك بومبيو إعلان أن: “حقبة التعامل مع الحزب الشيوعي الصيني قد انتهت” , كذلك اتهمها وزير الخارجية الحالي أنتوني بلينكن، بالتصرف “بشكل أكثر عدوانية في الخارج وأكثر قمعاً في الداخل” , في حين أكد جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس جو بايدن، بأنه يجب مواجهة الصين وجعلها “تدفع عواقب سلوكها العدواني، وما تفعله في شينجيانغ”، من “إبادة جماعية” بحق مسلمي الإيغور، و “ما تفعله في “هونغ كونغ” و”تايوان” , وأشاد سوليفان بمبادرة إدارة ترامب السابقة , لإعادة إطلاق التحالف الاستراتيجي الرباعي (الولايات المتحدة , أستراليا , الهند , اليابان ) لمواجهة النفوذ الصيني في المنطقة… أتبعه الوزير بلينكن بقوله: ترامب ” كان على حق في اتخاذ نهج أكثر صرامة تجاه الصين التي ترتكب إبادة جماعية ضد الإيغور المسلمين في الصين” , في دليلٍ قاطع على سير إدارة بايدن على نهج إدارة ترامب , رغم إدعاءاتها بنسفه.
وفي الوقت الذي تبتعد فيه واشنطن عن الشراكة الاقتصادية الإقليمية والدولية ، ولا تبدو إدارة بايدن جادة حيال الحوار الصيني – الأمريكي المباشر, ويخشى أنها تبحث عن المواجهة بطرقها الملتوية عن العبث في الداخل الصيني , والدفع باستراتيجية دعم الثورات الملونة وإشعال الفتن بين العرقيات والإثنيات والقوميات التي يعج بها المجتمع الصيني وما حوله ..
ولا يمكن النظر إلى إنسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان إلا من خلال هذا السياق , وأنها لن توفر أي جهد سياسي أو عنف تمارسه التنظيمات والجماعات المسلحة الذين دعمتهم علناً لسنوات , لإفشال شراكة الصين مع عديد الدول المجاورة , ولتخريب مبادرة الحزام والطريق بكامل فروعها… على الرغم من محاولة الخداع التي قام بها الرئيس بايدن بكشفه النقاب عن مبادرته “إعادة بناء عالم أفضل” في اجتماع مجموعة السبع في شباط/فبراير 2021 , كرد أمريكي على مبادرة الحزام والطريق , وكمحاولة لزعزعة الإستقرار , ولتأكيد التشدد على الدول والمناطق التي تتعاون مع بكين , وتكون جزءاً من المبادرة.
ومن الواضح أن استراتيجية العبث بمكونات المنطقة الاّسيوية , سيطال بدايةً الداخل الصيني , عبر دعم الإنفصاليين الإيغور في منطقة شينجيانغ غرب الصين لتقسيمها تحت مسمى تركستان – الصين – الشرقية , والدعم الأمريكي لإستقلال مقاطعة “بلوشستان” جنوب غرب باكستان , الذي سيُعَقّد أو يُنهي المصالح الصينية في المنطقة , إذ يعتبر ميناء جوادر في بلوشستان نقطة تفتيش مهمة على طول مبادرة الحزام والطريق في الصين , وهي بمثابة وجهة نهائية للممر الإقتصادي بين الصين وباكستان وتسمح للصين بشحن الطاقة والبضائع من الصين إلى بحر العرب ، متجاوزة جنوب شرق آسيا للشحن من وإلى الشرق الأوسط وإفريقيا وما وراءهما , وتعول الولايات المتحدة على الدعم الذي تقدمه منذ 2012 لشعب بلوشستان وتدعم حقه في تقرير مصيره ما بين باكستان وإيران وأفغانستان … ولن يتوقف الأمريكيون عن محاولات السيطرة على قلب آسيا الوسطى.
من الواضح أن “الانسحاب” الأمريكي من أفغانستان , لا يعدو سوى بداية مخطط خبيث , يسمح لها بتنفيذ عملياتها السرية داخل وخارج أفغانستان , عبر المتعاقدين الأمريكيين والوكيل التركي والمرتزقة والعملاء والخونة من شعوب اّسيا الوسطى وإرهابيي العالم , بهدف الإقتراب أكثر فأكثر من وأد أو حصار المصالح الصينية وشركائها الإستراتيجيين كإيران وروسيا وباكستان وطاجيكستان , في منطقتها , ومنعها من الإنتقال عبر الحزام والطريق إلى منافسة الولايات المتحدة والتأثير على مصالحها حول العالم.
Views: 1