من التجارب المختلفة في المشهد الدرامي والثقافي السوري، حيث التمثيل أعمق من الأداء، والدراما أكبر من مجرد مسلسل للتسلية أو حتى التكسّب والشهرة.. ولأننا عرفناه عبر الأدب أولاً، كان علينا أن نشحذ الأسئلة جيداً، لأن المواجهة مع بسام كوسا تشبه جردة حساب كاملة للثقافة والفن في آن معاً، خاصة أننا في زمن طغى فيه الهراء والتسويق والبضاعة المغشوشة، على اللآلىء التي يمكن أن تضيف شيئاً حقيقياً للمشهد.. في هذه المكاشفات شيء من الجرأة وكثير من الألم ووضع الإصبع فوق الجرح، لأن أعمال كوسا تحكي عنه قبل أن ننبش معاً هذا الكم الممكن من الوجع.. لقب فنانٍ يلبسه أكثر من صفة ممثل، ولأنه متمسك دائماً بجوهر القضايا، فإن البعض يقول: إنه دونكيشوت الدراما، الذي لم تأخذه أمراض النجوم أو أوهامهم بالأحرى، فالقصة هنا مسؤولية ثقيلة لا ينوء بسّام بحملها عن طيب خاطر، لأن العناوين الكبرى للثقافة تستحق أن نخدمها بشكل صحيح.. تجربة بسام كوسا، تنطوي على كم هائل من النبل، فقبل الغوص في جوانية الأدوار وفكرة الأعمال التي لبسها ولبسته، لابد من الذهاب إلى الينابيع التي اغتذى منها في شخصيات الواقع والتاريخ وغيرها، وإذا كان المثل الشهير يقول إن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن ما يمتلكه بسّام في جوانيته كثير ومتنوع إلى درجة تجعل المتابع يتأكد من حجم الثراء الذي يهبه للدور وليس العكس.. من أعطى للدراما أو من نحت الأدوار الدرامية أكثر، هل هو الفنان أم الشخصيات التي كان يعيد جبلها في كل مرة بحيث تكون أشهى وأشد دهشة؟.. من المؤكد أن ما فعله بسام على كل هذه الصعد، يعد ملامح فريدة لابد من الإضاءة عليها كنقاط ارتكاز، كي لا تضلّ التجارب الطريق أو يفقد الجيل البوصلة.. مفاصل كثيرة في هذا الحوار، فإلى التفاصيل:
•تقع النخب الثقافية في هذه المرحلة في خانة الاتهام بسبب ما يحكى عن انكفائها وتقصيرها خلال الحرب، فقد هاجر جزء منها وانعزل جزء آخر.. هل في هذا التوصيف جلد للذات؟ أم هناك ظروف واقعية لابد أن نأخذها بعين الاعتبار أم ماذا؟.
•• هذه القضية إشكالية ويمكن أن نتحدث حولها الكثير، لكن من حيث المبدأ، لا أحب أن أوجه الاتهامات لأحد، فكل منّا خلال هذه المرحلة الحساسة، مارس قناعاته التي تتكون بطبيعة الحال بناء على ثقافته وخبراته في الحياة، يجب ألا نتوقع من البشر أن يكونوا سوبرمانات دائماً.. أو أن يكونوا جاهزين لأي شكل من أشكال المعارك والظروف، فكل إنسان يتحمل حسب طاقته وإمكاناته ويتصرف حسب قناعاته.. من بقي ومن هاجر ومن صمت.. وهذا الكلام ينطبق على جميع البشر وليس فقط على المشهد الثقافي، ولكن سأكون صريحاً في هذا الموضوع.. فالحالة الثقافية في البلد ما قبل الأزمة، هي حالة إشكالية، لم تكن حالة سوية، ففي دولنا ولنسمي أنفسنا دول العالم الثالث بنسب متفاوتة، لا تؤخذ الثقافة بعين الاعتبار، وظروف الحرب التي حدثت أثبتت أن المعركة في معظمها ثقافية، فمن غير الممكن أن تقوم قائمة لأي أمة لا تأخذ الثقافة بعين الاعتبار، وأقصد هنا الثقافة بجميع مناحيها واختصاصاتها خاصة عندما نتحدث عن بناء الأمم الحديثة التي تحتاج التأسيس الثقافي أكثر من غيرها لأن الثقافة لديها ستكون البنية التي ستتحمل كل شيء.
•ما دمنا نتحدث عن بناء المجتمع الحديث، هل ترى أن مؤسساتنا التعليمية قادرة على بناء الجيل من الناحية الثقافية؟.
في هذه الآلية لا أعتقد!. هناك آلية عفا عليها الزمن، أي إنها لم تعد مجدية ولا تؤتي ثماراً ثقافية ولا تربوية.. كل شعوب الأرض تتطور استناداً إلى مؤسستين هامتين هما (التعليم والقضاء)، وأثناء مسيرة التطور تحافظ على هاتين المؤسستين، لأنهما تشكلان ضمانة لوجهة المجتمع ككل في النهاية، من الضروري أن نقدم للطالب في جميع المراحل الدراسية، مفهوم الثقافة ونشرح أهميتها وأبعادها وضرورات التركيز عليها.. فاليوم مثلاً، نشاهد آلاف المحامين وعدداً قليلاً من المبدعين في هذه المهنة!. أيضا هناك آلاف من الأطباء وعدد قليل من المبدعين في عالم الطب!. عندما تنتفي الحالة الإبداعية من أي مهنة تصبح مهنةً رديئة.. من الضروري أن يكون الشخص مبدعاً في مهنته سواءً كان حداداً أم نجاراً أم عاملاً في أي مهنة أخرى، وهذا أفضل بكثير من أن يكون طبيباً فاشلاً ورديئاً… وهذه المسألة إشكالية تبدأ حلولها من الأسرة الصغيرة إلى المدرسة ومن ثم المرحلة الجامعية.. في الجامعة، هناك الكثير من الطلاب يأخذون مقاعد غيرهم ممن هم أحق فيها ويفشلون!.
•تتعامل بعض المنابر وجزء كبير من الرأي العام، مع الممثل الدرامي على أنه من النخب الثقافية!. هل هذا التوصيف فضفاض بعض الشيء على الممثل أم إن تأثير الممثل في الرأي العام يمكن أن يعطيه هذه الصفة؟.
••لنبدأ من واقعنا، لأن المجتمعات الأخرى ربما تكون معاييرها مختلفة، فقدرنا الجغرافي وضعنا في منطقة حارة سياسياً.. فمنطقتنا مطلوب رأسها منذ آلاف السنين، ولم تبق قوى في العالم إلا وأتت إلى هنا، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا على سلوك الفرد الذي يشعر أنه دائماً في مرحلة مواجهة أو تحت ضغط ما، من هذه النقطة يمكن أن نشاهد بياع الخضار ــ مع احترامي الشديد له ــ يتحدث في السياسة والثقافة.. وأيضاً عامل النظافة، الذي يجب أن نضعه على رؤوسنا، أيضاً يتحدث بالسياسة!. هذه الظاهرة تنطوي على جوانب سلبية وإيجابية، لكن من الضروري التفريق بين وجهة النظر التي يقدمها الشخص وبين النظرية الفاهمة والعارفة للظروف التاريخية وطبيعية ما يجري.. هذه واحدة من مشاكلنا وعيوبنا للأسف، فكلنا نعلم كل شيء ونفهم بكل شيء، وهذه مسألة قديمة تعود إلى ما قبل الأزمة.. فالشعوب التي تعتقد بأنها تعرف كل شيء هي قطعاً شعوب لا تمتلك المعرفة الحقيقية ولا تعرف شيئاً، إننا شعوب تخجل أن تقول لا أعرف وهذه مصيبة كبرى!. التمثيل في الأساس، مهنة معرفية لا تحتمل أنصاف الأميين وأرباع المثقفين.. لكن عندنا فالمساحة الأكبر لهذه النماذج…. للأسف!. لنعد إلى توصيف النخب الثقافية، طبعاً أراه فضفاضاً ولا يمكن تعميمه على جميع الموجودين في مهنة التمثيل، الباحثون عن المعرفة أصبحت نسبتهم ضئيلة للأسف!.
•هل مازال بسام كوسا في مرحلة التجريب؟.
••طبعاً، فمهنتنا مهنة تجريب ومعظم الفنانين في العالم ماتوا وهم مازالوا في حالة التجريب وسأبقى إلى أن أموت في مرحلة التجريب، ولو قام الممثلون العباقرة عبر التاريخ، بإلغاء قضية التجريب من أذهانهم لكان التمثيل انتهى عندهم بالتأكيد!. •يقول بعض النقاد إن الفنون لا يمكن أن تتناول الأحداث الكبرى، كالحروب مثلاً، إلا بعد انقضاء فترة زمنية كفيلة بتوضيح كل التفاصيل المتصلة بها ومن أجل أن يحدث الاختمار المطلوب قبل تفكيك الأحداث والتعاطي معها فنياً.. شاركت في «ضبوا الشناتي» و»روزانا» وقد تصدت الدراما السورية لموضوع الحرب، والأحداث لم تنته بعد، كيف ترى هذه المقاربات الدرامية التي تناولت الحرب والاحداث السورية بشكل عام؟ هل نجحت وهل ستعود بعد سنوات لتتناولها لأنها تسرعت في ذلك أم ماذا؟.
••ما قُدم من أعمال، سواء في السينما أو التلفزيون، يفتقد إلى مسألة جوهرية، وهي أن الدراما بشكل عام يفترض أن تكون مبنية على الفعل، بينما معظم الأعمال التي قُدمت مبنية على رد الفعل!. الفنون يجب أن تستند إلى الفعل لتؤثر في الواقع، ومن هذه النقطة وقعت في مجموعة من المطبّات، منها قلة التحليل والاستسهال، و»ضبّوا الشناتي» كان مبنياً على العقل ويصف مشكلة عظيمة جداً بشكل طريف، وهذه واحدة من الأسباب التي شجعتني على العمل فيه.. التعبير عن هذا المُصاب الذي عصف بنا جرّاء الحرب، يحتاج سنوات عديدة لنصبح قادرين على توصيفه بشكل كامل، وبشكل عام ومن قبل الأزمة، فإن من أهم صفات الدراما السورية أنها ارتجالية وليست استراتيجية ولا تخطط للغد.. وفي كثير من المراحل كان بالإمكان تسميتها بدراما العدوى.. مثلا يُقدم عمل يتناول البيئة الشامية، فتصبح جميع الأعمال التي تقدم شامية وهكذا…
•هل هناك عمل يستحق الأجزاء؟
••أعظم مسلسل، عبارة عن ساعتي سينما هامتين فقط،!. أما ما تبقى فهو ثرثرة ولغوً!..
•هل ستعود إلى باب الحارة؟
••هو ظاهرة جديرة أن نبدي رأينا فيها سواء كان الرأي سلبياً أم إيجابياً.. شاركت في الجزء الأول فقط،ً لكن الذي شجع على انتاج الأجزاء الجديدة، هو الاقتصاد أو بالمعنى الأصح التجارة، لقد دُعيت للعودة إلى باب الحارة لكنني رفضت رفضاً قاطعاً فالمسلسل ذهب إلى اتجاهات أخرى ولن أشارك فيه!.
•مرت فترة اعتدنا أن نراك كثيراً في أعمال الشر ومنها مسلسلات بيئة شامية أو اجتماعية.. ألم تخشَ النمطية وتأثيراتها على تجربتك الفنية بشكل عام؟.
••الأدوار لم تكن متشابهة، إنما الذي يجمعها نقطة واحدة هي الشر، وبالتالي لم تكن نمطية.. الشر قيمة انسانية يجب التعامل معها وهي قيمة موازية للخير ومحرك حيوي للحياة.. ما يأخذ تفكيري دائماً ألا أكرر طريقة العمل في أي دور يمكن أن أؤديه!.
• تؤدي دور البطولة في دراما الويب في مسلسل سوري صرف، هل يعتبر هذا مواكبة لتطور الاتصالات والتقنيات الحديثة أم محاولة للتغلب على تعثر التسويق وسياسة الفضائيات العربية بشكل عام وغير ذلك من أساليب التحكم بعرض المسلسلات؟.
••هذا الأمر له علاقة في دور وسائل الاتصال في العالم التي انعطفت بعقلية المجتمعات في الكرة الأرضية.. فالبشرية دائماً تكون سائرة في خط معين إلى أن يأتي اختراع علمي يغير طريقة تفكيرها ونمط حياتها.. العلاقة مع الحياة أصبح لها آليات مختلفة، والبشرية ذهبت في هذا الاتجاه، وباعتبار أن جزءاً من مهنة الدراما يعتمد على الميديا ووسائل التواصل، كان لهذه المهنة نصيب من هذا المنجز العلمي لكنه أتى في وقت نحن في حالة إنتاجية مضطربة.. قبل الأزمة كان الوسط الدرامي غير موفق وغير محظوظ بمجموعة من المنتجين الذين لم يكن يعنيهم الشأن الثقافي.
•أحد أصحاب شركات الانتاج قال: إنه لا يهمه ممثل نجم أو مخرج وإنما يبيع باسم شركته فما رأيك؟
••رأيي بسيط وهو أن كل ما تصرف به هذا المنتج ليس جديراً بالتعليق عليه..
•صرحتَ في لقاء سابق أن الازمة السورية وضعتنا أمام أنفسنا بلا تزييف وكذب.. ماذا تقصد؟.
•• من الأمور الإيجابية لهذه الأزمة، أنها وضعتنا أمام مسؤولياتنا الحقيقية الكبرى، فجميعنا وقفنا أمام المرآة وشاهدنا أنفسنا كما نحن بدون تجميل، وهذا ليس معيباً بل هو شرف كبير لنا أن نشاهد أنفسنا على حقيقتها، ومازلنا داخل الأزمة أي في منتصفها ربما، وهذا يتطلب من الناس الوقوف على أرجلهم ليشعروا أن هناك أفقاً ايجابياً للحل.
•ماذا قدمت نقابة الفنانين للفنان السوري؟ وهل قراراتها كانت صائبة في مرحلة الحرب وهل كان دورها فعالاً؟.
••هي ليست نقابة.. هي مزرعة!. وليست هذه النقابة جديرة لأقول عنها المزيد..
•لو عُينت مديراً للمعهد العالي للفنون المسرحية، ماهو الشيء الذي ستقوم بتغييره؟.
••أنا في هذا الظرف لا يمكن أن أبدي رأياً في المعهد نهائياً، فهناك طريقة عمل مختلفة وكانت سائدة سابقاً والآن المعهد في حالة يرثى لها، الأشياء ليست في الأبنية إنما في الكوادر التي تديرها فالوضع في المعهد يدعو إلى الشفقة..
•في الإنتاج، لماذا لم يتفوق القطاع العام على القطاع الخاص حسب وجهة نظرك؟.
••أنا واحد من الناس الذين يدينون إلى القطاع العام، فهذا القطاع قدم طاقات فنية هائلة حتى إلى المناطق العربية، هو القلعة الأخيرة التي نحتمي فيها، ولا ننكر أن القطاع الخاص قدم شيئاً مهماً، أما بالنسبة للمواكبة فالقطاع العام لم يواكب الخاص الجيد، لعدد كبير من الأسباب منها المحسوبيات والوساطة والسرقة!..
• متى ستعود إلى السينما؟.
••السينما أبعدت الكثيرين منا، وأنا واحد من المبعدين، وهذا كان مصدر سعادة للقيمين على السينما ونحن نشكرهم على الإنجازات التي قدموها فهم هرّبوا العديد من المخرجين والممثلين… والآن هناك مخرجان أو ثلاثة يتبادلون الأدوار في كل عام!..
•ماذا قدمت وزارة الثقافة بشكل عام لمختلف أنواع الفنون؟.
••لا أريد شن حروب على أية جهة ولكن هي أزمة من ضمن الأزمات في البلد فهي لم تقدم سوى الاستعراضات..
•هل تمكنت التجارب الشبابية من تقديم شيء مختلف وخاص، أم إن الفرادة أصبحت عملة نادرة في هذا العصر في ظل ابتلاع التسويق وشروط الإنتاج لكل المواهب كما يقول النقاد؟.
••أنا مؤمن بمن هم قادمون.. فالجيل الشاب هو الهدف وهو الذي يقول ما لم يستطع غيره أن يقول، ولكن عندما نجد التجارب الشبابية فقط للدعاية والإعلان يفترض أن نشير إلى هذا الأمر كي نحافظ على الدقة المطلوبة في التوصيف!..
•ضمن معادلة هجرة نجوم الدراما السوريين إلى أعمال لا تشبه الواقع السوري وفي ظل تراجع حضور الأعمال السورية على الفضائيات العربية وفي ظل الهجمات التي تنال من الأعمال الجيدة… في ظل كل هذا، أين يجد بسام كوسا نفسه وماذا يمكن أن يفعل إزاء كل ذلك؟.
•• كل من عمل في أعمال درامية خارج سورية، هذا حقه الإنساني والمهني والشخصي، ومن المعيب سؤاله عن ذلك فلا يستطيع أحد أن يفصّل الناس على مقاسه وكل ما نفعله اليوم وفي جميع القطاعات هو الدفاع عن الحياة..
•لماذا لم يغادر بسام كوسا البلد؟.
••المسألة لا يوجد فيها استعراض واستشراف.. أنا لا أريد الخروج فهذه بلدي ومن يريد أن يغادرها فليغادر.. فيوماً بعد يوم، تكشف للعديد أن المسألة أكبر وأخطر من تصوراتهم فما شن على سورية من مخططات أدت إلى دمار كبير لم يكن هدفه سوى تمزيق هذا البلد وضرب بنيته كاملة لذلك أدعو الجميع (بتواضع كبير) أن يعيدوا حساباتهم وطريقة تفكيرهم.. على العموم، فإن الحضارات والشعوب لن تبنى إلا بمبدأ التسامح والغفران.. يجب أن نعلم أنفسنا التسامح والغفران رغم كل ما مرّ بنا.
Views: 3