قبل 3 أيام من لقاء الرئيسين الروسي والتركي، يحتدم الجدل حول ما يمكن أن يسفر عنه هذه اللقاء، خاصة في ظل التوتر الذي تشهده منطقة إدلب والشمال الشرقي لسوريا.
يأتي ذلك التوتر على خلفية بعض الانتهاكات من جانب المسلّحين في إدلب، ومناوشات أفضت إلى حادث مقتل 33 جندي تركي في غارة شنها الطيران السوري في محافظة إدلب، فبراير الماضي، وهو ما رفع من درجة حرارة التصريحات التي انتهت بتصريح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، للصحفيين في إسطنبول، الجمعة الماضي، بأن “النظام السوري تحول إلى بؤرة تهديد في جنوب تركيا”، وتوقعاته بأن “تسلك روسيا نهجاً مختلفاً” للتضامن مع أنقرة.
فتحت تلك التصريحات شهية بعض المحللين السياسيين والصحفيين، ليدلوا بدلوهم، ويتخذوا مواقع الخبراء في شؤون العلاقات الروسية التركية، شديدة التعقيد والتشابك، حتى صرح بعضهم بأن الاختلافات الاستراتيجية ممثلة في استياء روسيا من التحركات التركية في أوكرانيا وجورجيا وأذربيجان، بالإضافة إلى “عدم موافقة” تركيا على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، تؤكد “محدودية التفاهمات التركية-الروسية”، وأن التقارب الحاصل بين البلدين “لا يضع علاقتهما في موقع التحالف الاستراتيجي، وإنما هو أقرب إلى التكتيكي”، ما جعل التفاهمات التركية الروسية عموماً، وبشأن سوريا على وجه الخصوص، “أمام لحظة مفصلية جديدة”.
كما ذهب البعض الآخر إلى أن استمرار النهج التركي يعني أن أردوغان يسعى إلى “الخصام مع الجميع، بما في ذلك روسيا”، حيث يرون أن تصريحاته تعد مؤشراً إضافياً على “تجاوزه معايير السلوك المقبولة والمتعارف عليها في العلاقات الدولية”.
من الممكن بالطبع فهم وجهة النظر هذه، استناداً للسياق السياسي الذي تطرح فيه، فهناك كثيرون لا يرضون عن التقدم الذي أحرزه مسار أستانا، ومؤتمرات موسكو وسوتشي وسائر المؤتمرات التي أفضت في نهاية المطاف إلى وقف إطلاق النار في سوريا، وإنشاء مناطق التهدئة. هناك آخرون ممن لا يعجبهم أي تقارب روسي تركي، لما يمثله ذلك من تعارض مع أجنداتهم السياسية في سوريا وغير سوريا.
شخصياً، لا أجد أي سبب يحملني على عدم التفاؤل إزاء قمة الرئيسين بوتين وأردوغان. بل إني أعتقد أن هذا اللقاء المرتقب سوف يكون لقاءً إيجابياً وبناءً من حيث المضمون والنتائج، لأن روسيا تتفهم أهمية الوضع في الشمال الغربي للأراضي السورية بالنسبة للأمن القومي التركي، كما تتفهم كذلك العبء الكبير الذي تتحمله تركيا من تواجد حوالي 3.5 مليون لاجئ سوري على أراضيها، وهو ما يرتبط مباشرة بتسوية الوضع في إدلب، والتعامل مع قضية المعابر الحدودية.
روسيا كذلك تقدّر الدور الكبير، الذي قامت وتقوم به تركيا من خلال مسار أستانا، وسعيها بالتنسيق مع روسيا إلى منع الاحتكاكات المسلحة، التي تحاول القيام بها جهات متطرفة سواء من جانب الأكراد، أو من جانب التنظيمات الإرهابية المسلحة، بهدف الاستفزاز وإفشال جهود التسوية، لما يمثله ذلك من خطر على هؤلاء، وفضح هوياتهم الإرهابية أمام العالم.
أما فيما يخص العلاقات الروسية التركية، فأود هنا التذكير بما حدث في الرابع والعشرين من نوفمبر 2015، حينما أطلقت قوات الدفاع الجوية التركية النار على مقاتلة روسية من طراز “سوخوي – سو24″، ما أدى إلى سقوطها قرب الحدود السورية التركية، ومقتل طياريها. وهو ما أدى إلى أزمة دبلوماسية حادة بين روسيا وتركيا، أعلنت بعدها هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية قطع جميع الاتصالات العسكرية مع الجانب التركي، ونشرت القوات الروسية منظومة إس-400 الدفاعية المتقدمة المضادة للأهداف الجوية في قاعدة حميميم على الأراضي السورية، ثم تم التوقيع، في 28 نوفمبر، على “مرسوم بشأن التدابير الخاصة بضمان الأمن القومي الروسي وحماية المواطنين الروس من الأعمال الإجرامية وغيرها من الأعمال غير الشرعية، والتدابير الاقتصادية الخاصة ضد تركيا”. وبموجب هذا المرسوم تم فرض حظر أو تقييد للعمليات الاقتصادية الخارجية على أراضي روسيا، ومنع استيراد أنواع معينة من البضائع التركية إلى البلاد. كما تم فرض حظر أو تقييد على المنظمات الخاضعة للولاية القضائية التركية، والتي تؤدي بعض الأعمال أو تقدم بعض الخدمات على الأراضي الروسية. وتم فرض حظر على أرباب العمل لجذب الموظفين من بين المواطنين الأتراك اعتباراً من 1 يناير 2016، وأوقف العمل بقانون السماح للمواطنين الأتراك بدخول الأراضي الروسية دون تأشيرة، وتوقفت السياحة بين البلدين نهائياً.
في يونيو 2016، وقبل الانقلاب الفاشل على الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تقدم الأخير بخطاب عبّر فيه عن رغبته في حل الأزمة بشأن حادث مقتل الطيارين الروس، وعقب محادثة هاتفية بينه وبين الرئيس الروسي، بدأت المياه في العودة إلى مجاريها فيما يخص العلاقات بين البلدين. وبدءاً من نهاية عام 2016 عادت روسيا للتنسيق مع تركيا بشأن العملية العسكرية في سوريا، حتى تم توقيع اتفاقية مناطق التهدئة في أكتوبر عام 2019، والتي تم بموجبها وقف إطلاق النار على كامل الأراضي السورية.
الآن، نحن نرى واقعياً وعلى الأرض كيف أن حجم الاستثمارات التركية المباشرة في روسيا (وفقاً لبيانات البنك المركزي الروسي عن يناير 2021) 2 مليار دولار، والروسية في تركيا 6.4 مليار دولار. رأينا كذلك مراسم افتتاح الرئيسين بوتين وأردوغان في 8 يناير عام 2020 لخط أنابيب “السيل التركي” لنقل الغاز الطبيعي. كما نشهد الآن أيضاً أعمال بناء 4 مفاعلات نووية في محطة “أكويو” النووية بمقاطعة ميرسين التركية، والتي تبلغ قيمتها استثماراتها أكثر من 20 مليار دولار، وبدأ العمل بها عام 2018، ويفتتح المفاعل الأول عام 2023.
كذلك، وبالتزامن مع التصريحات التي فتحت أبواب الجدل والتكهنات، أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الخميس الماضي، عن رفض بلاده للضغوط الأمريكية المستمرة بسبب شراء أنظمة الدفاع الجوي الروسية “إس-400″، حيث تم الانتهاء من الصفقة، ولن يتم تعديلها، حسب تعبيره، (كانت روسيا وتركيا قد وقعتا عقد الحصول على أنظمة الدفاع الجوي الروسية في 2017، وتم تسليم المعدات في صيف وخريف عام 2019، وهو ما تسبب في أزمة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث طالبت واشنطن تركيا بشراء منظومات “باتريوت” الأمريكية، وهددت بتأجيل أو حتى إلغاء صفقة بيع أحدث مقاتلات “إف-35” الأمريكية إلى تركيا، فضلاً عن فرض عقوبات عليها). كما أعلن أردوغان، نهاية أغسطس الماضي، عن اعتزامه شراء فوج ثان من أنظمة الدفاع الجوي الروسية “إس-400”.
لهذا أعود للتأكيد على أن العلاقة بين الرئيسين الروسي والتركي هي علاقة متميّزة يسودها التفاهم وروح المسؤولية، تضع على قائمة أولوياتها أمن واستقرار المنطقة، وتطوير علاقات التعاون والتنسيق المتبادل بين البلدين، ليس فقط فيما يخص الملف السوري، وإنما على كافة المستويات وفي جميع القطاعات.
وبصدد قضية إدلب، فإني أعتقد أن اتفاقاً سيبرم بين الزعيمين بشأن الاستمرار في آليات التنسيق بين البلدين، مع الوضع في الاعتبار أهمية ذلك بالنسبة للجانب التركي، ومراعاة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وسيادة الحكومة الشرعية في البلاد على كافة أراضيها، وهو ما يركّز عليه الطرفان دائماً في جميع بياناتهما المشتركة عقب كل اللقاءات التي جرت في الماضي.
وبشأن القضية الكردية، فإن روسيا لا ترى حلاً للمشكلة الكردية إلا في إطار الدولة السورية، التي تتمتع بمطلق السيادة ووحدة الأراضي على مجمل التراب السوري، وتعتبر التواجد العسكري الأمريكي تواجداً غير شرعي بالمرة، يخالف كافة المواثيق والأعراف الدولية، وهو ما أبلغه رئيس الأركان العامة الروسية، فاليري غيراسيموف، لرئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، مارك ميلي، خلال لقائهما في مقر الحكومة الفنلندية بمدينة فانتا، 22 سبتمبر الجاري، حيث أبلغه بضرورة مغادرة القوات الأمريكية للأراضي السورية.
لقد مرت العلاقات الروسية التركية بعدد من المحطات المفصلية عبر التاريخ، إلا أن هذه العلاقات تثبت رسوخاً وقوة مع كل منعطف تمر به، ولا أعتقد، بأي حال من الأحوال، أن تمثّل مواقف تركيا من الاعتراف بشبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية، أو موقف تركيا من أوكرانيا أو في ليبيا وغيرها من مناطق الاختلاف بين البلدين، غيوماً تلبد اللقاء بين بوتين وأردوغان.
إن تجربة مسار أستانا لابد وأن تكون نموذجاً لما يمكن أن تتمخض عنه سياسة الموائمات والدبلوماسية الرشيدة، وأعتقد بكل ما أوتيت من قوة، وبناء على خبرة طويلة في مجال العلاقات الدولية والعمل الدبلوماسي، أن تعزيز العلاقات التركية الإيرانية الروسية العربية هو مفتاح الازدهار والأمن والاستقرار في المنطقة، وهو الدرع الحامي للمنطقة ضد كل التحديّات بما فيها التحديات الطبيعية.
الكاتب والمحلل السياسي رامي الشاعر
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب
Views: 1