عبد الباري عطوان
ثورة 23 تموز (يوليو) قدّمت الكثير جدًّا لنا كعرب وكمُسلمين، والفُقراء المُعدمين منّا خاصَّةً، وأنا مَدينٌ لها شخصيًّا بكُل ما حقّقته من تعليم، ومهنيّة، فلولاها ما كنت قد وصلت إلى ما وصلت إليه، وأيًّا كانَ حجمه، فقد كانت ثورةً إنسانيّة حداثيّة، وعالميّة، ولم تَكُن أبدًا مِصريَّةً فحسب.
أذكر أنني عندما كُنت أُحَضِّر لرسالة الماجستير في جامعة لندن، التقيت المُستشرق الدكتور فاتيكيوتس الذي كان أحد كوادر التّدريس في كليّة الدّراسات الشرقيّة، فقلت له إنّك قسوت كثيرًا على ثورة “يوليو” والزّعيم جمال عبد الناصر في كتابك الموسوعي عن مِصر أحد أهم المراجع العربيّة والإنكليزيّة، فاعترف لي، وهو الذي كان ينتقد دائمًا اندِفاعي في الدّفاع عن عبد الناصر في وجه خُصومه “المُستَعربين، (من الغرب)، اعترف لي أنّ عملًا عظيمًا، وهو “الإصلاح الزّراعي يغفر لجمال عبد الناصر كُلّ أخطائه، ويكفيه، ويكفي مِصر، أنه قضى على الإقطاع وانتَصر للفلّاح المِصري، وأنصفه بعد قُرون من العُبوديّة والاضّطهاد.
كانت أُمنيتي أن أُقابل الرئيس عبد الناصر، وكُل ما استطعت أن أُحقّقه أنّني رأيته عن بُعد عندما ألقى خِطابًا في الإسكندريّة بمُناسبة ذكرى ثورة تمّوز، فعندما كنت طِفْلًا في السّنة الثّانية ابتدائيّة، قطعت ورقة من كُرّاستي اليتيمة، وكتبت فيها “أربع” كلمات “جمال عبد الناصر أنا أُحبّك”، ووضعتها في مُغلّفٍ بنّي، وكتبت العُنوان “جمال عبد الناصر ـ القاهرة”، واستجديت والدي أن يُعطيني نِصف قِرش (تعريفة) لشِراء الطّابع، ووضعت الرّسالة في صندوق البريد.
بعد أسابيع جاء النّاظر بخيزرانته الطّويلة مع عَددٍ من المُدرّسين إلى فصلي باحثًا عنّي، وكُنت نحيفًا هزيلًا أُعاني من فقر دم مُزمن نتيجة للفقر والجُوع والحِرمان، فكِدت أن أنهار من الخوف، فالنّاظر كانت لُغته في المُخاطبة دائمًا “الخيزرانة” سواءً كُنت مُصيبًا أو مُخطئًا، وكنت زُبونًا دائمًا في تحيّاته ومُدرّسيه لمُشاغباتي أو لتأخّري عن المدرسة، وقادني ووفد “العُصي” من المُدرّسين إلى غُرفته، وهُناك أبرز مظروفًا بُنِّيًّا “ضخمًا” مفتوحًا، وسألني مُنذ متى تعرف جمال عبد الناصر؟ أنكرت وأنا أرتجف أنّي أعرفه، ومن أنا هذا الطّفل الحافي في مدرسة لمخيّم دير البلح للاجئين حتى أعرفه؟ ولكنّه أيّ النّاظر ربّت على ظهري بيده، وليس بالعصا، وقال إنّه فَخورٌ بي، وأعطاني الظّرف، وكان يتضمّن صورةً للرئيس عبد الناصر، وخِطاب منه يشكرني، وبضعة كُتب مثل المِيثاق وفلسفة الثّورة على ما أذكُر، وأعتقد أنّ أهلي في مُخيّم رفح ما زالوا يحتفظون بالرّسالة والكُتب، أو هذا ما أتمنّى.
أحببت عبد الناصر لأنّه وقف مع كُل الثورات العربيّة وشُعوبها المُستَعمرة، وفتح مِصر وجامعاتها ومُستشفياتها وقُلوب أبنائها الطيّبين لاحتِضان العرب والأفارقة والآسيويين، ووضع مِصر في مصاف الدّول العُظمى في حينها، مِثل يوغسلافيا والهند وروسيا والصين في الخندق المُواجِه للاستِعمار العربي، وخاضت مِصر في عهده ثلاث حُروب في مُواجهة العُدوان الإسرائيلي الغربي، حرب السّويس، حرب عام 1967، وحرب الاستِنزاف، وكان الفضْل في انتِصار حرب أكتوبر 1973 يعود إليه وتجهيزه للجيش المِصري لخوضها للثّأر من هزيمة “حزيران”.
ربّما يختلف معي كثيرون في هذا الرّأي، لأسبابٍ عقائديّة أو ثأريّة، وهذا من حقّهم، ولكنّ هذا الاختِلاف لا يُمكن أن يُقلّل من العديد من الحقائق والإنجازات والثّوابت عن هذا الرّجل العظيم، وأبرزها أنّه ماتَ فقيرًا ولم يترك قُصورًا ولا يختًا عِمْلاقًا، ولا أرصدة سريّة طافحة بالملايين، أو المِليارات، ولا حتّى منزلًا لعائلته، وكان عربيًّا مُسلِمًا عابرًا للتعصّب الطّائفي أو الدّيني، وجعل مِصر منارةً للحداثة والعزّة، والاستِقرار، وعُنوانًا للكرامة، وقِبْلةً لكُلّ الثوّار الشّرفاء في جميعِ أنحاء العالم.
دعاني معهد العالم العربي في باريس، عندما كان موضوعيًّا ويُرَحِّب بكُلّ الآراء وليس أسير المال، للمُشاركة في ندوةٍ بمُناسبة مُرور 25 عامًا على وفاة الرئيس عبد الناصر، وكان من بين المُتحدّثين وزيرا خارجيّة وداخليّة فرنسا، ووزير واحِد من مِصر، وكُنت أصغر المُتحدّثين سِنًّا ومكانةً، وقالوا في كلماتهم الكثير من الأطناب عن الرّاحل وإنجازاته، ولم يتركوا لي شيئًا أقوله وكُنت آخِر المُتحدّثين، فقُلت في كلمةٍ مُوجَزة، لولا جمال عبد الناصر لما كُنْتُ هُنا، أنا اللّاجئ ابن المُخيّم، أقف بينكم.
مِصر اليوم تُواجِه “موسوعةً” من الأزمات، لأنّها على مدى 52 عامًا بعد وفاته انحرفت عن هُويّتها ودورها القِيادي الرّائد، ووقّعت اتّفاقات “كامب ديفيد” اعتِقادًا من خليفته أنور السّادات أنّ هذا السّلام مع العدوّ سيُحوّلها إلى جنّات عدن، فجاءت النتائج عكسيّةً تمامًا، وكانَ وما زال هذا حال جميع الحُكومات العربيّة التي سارت على النّهج نفسه، قديمة التّطبيع أو جديدة.
رُغم حُروب الرئيس عبد الناصر ودعمه للثّورات العربيّة، كان الاقتصاد المِصري قويًّا، والدّين المِصري الخارجي شِبه معدوم، ويتعلّق بصفقات الأسلحة فقط، ولم تتسوّل مِصر دولارًا واحدًا من أشقّائها، وصانت كرامة المِصري في جميع أنحاء العالم، عِشت في مِصر عامًا واحدًا في عهد عبد الناصر (1970)، وكُنت هُناك من بين المُشيّعين الباكِين له، وأشهد أن مِصر كانت أبيّةً غنيّة، تأكُل وتلبَس ممّا تُنتج، وتصنع كُل شيء من السيّارة حتّى معجون الأسنان، والجمعيّات التعاونيّة كانت طافحةً بالسِّلَع الرّخيصة المدعومة من الدّولة، وبعد أقل من عام تغيّر كُل شيء، وبدأت عمليّات التّجويع المدروسة للشّعب المِصري لتأييسه وتكريهه بالعرب، ودفعه نحو التّطبيع واتّفاقات كامب ديفيد.
خُروج مِصر من كُل أزماتها لا يتم بالقُروض الخارجيّة، عربيّة أو من صندوق النقد الدولي، وإنّما باستِعادة دورها الرّيادي، والاعتِماد على شعبها الخلّاق المُبدع، ومُكافحة الفساد بكُلّ أشكاله، والخُروج من اتّفاقات كامب ديفيد والحِلف الأمريكي، وإعادة تحالفها القويّ مع الزّعامة الروسيّة الصينيّة الصّاعدة للعالم، وإدارة الظّهر للحِلف الأمريكي الغربي المهزوم في أوكرانيا، ولعلّ تنبّؤات كيسنجر وبلير في هذا الشّأن خَيْرُ دليل.
لو عاد التّاريخ إلى الوراء، لكَتَبْتُ الرّسالة نفسها إلى الرئيس جمال عبد الناصر، وأضفت إليها كلمةً واحدة “الرئيس جمال عبد الناصر أنا أحبّك أكثر”.
Views: 3