وما هي “الأخطار” التي دفعت الأخير للتّراجعِ عن “عِناده” والاعتِراف بأنّ أمريكا وقوّات التحالف الدّاعم الأكبر للإرهاب في سورية؟ وهل اقتربت الصّلاة في المسجد الأموي؟ وعلى رُوحِ مَنْ؟
عبد الباري عطوان
عندما يُؤكّد الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان بأنّه يجب عليه، وحُكومته، اتّخاذ خطوات “مُتقدّمة” مع سورية من أجل إفساد “مُخطّطات” تُريد تدمير المِنطقة والعالم الإسلامي، وعدم وجود أيّ أطماع لديه في أراضي سورية، والتِزامه بوحدتها الترابيّة، فهذا التحوّل المُفاجئ، الذي جاء على لسانه، وبالصّوت والصّورة، للصّحافيين الذين كانوا على متن طائرته أثناء عودته من أوكرانيا، ربّما جاء في إطار مُراجعاتٍ سياسيّةٍ جذريّة وتقدير موقف لتطوّرات السّنوات العشر الماضية، وانعكاسًا للرّغبة في فتحِ صفحةٍ جديدة “جديّة” و”مُختلفة” مع القيادة السوريّة على الصُّعُدِ كافّة.
فهذه اللهجة التصالحيّة المُفاجئة مع سورية قيادةً وشعبًا، لا يُمكن أن تكون وليدة السّاعة، وإنّما بعد دراسة مُتعمّقة للأخطار التي تُهَدِّد تركيا والمِنطقة بأسرها، والتوصّل إلى قرارٍ بحتميّة التّراجع عن جميع السّياسات السّابقة التي لا تُهَدِّد بـ”تفكيك سورية” وإنّما الدولة التركيّة أيضًا إذا ما استمرّت.
كلمة السِّر السحريّة جاءت بكُلّ تأكيد أثناء لقاء القمّة التي انعقدت قبل أسبوعين في مُنتجع سوتشي بينه وبين الرئيس الروسي الضّيف فلاديمير بوتين، وجرى خلالها مُناقشة بحث التطوّرات في سورية مثلما جاء على لسان الرئيس أردوغان، والتوصّل إلى تفاهماتٍ استراتيجيّة لحلّ الأزمة السوريّة على أرضيّة القُبول بالمطالب السوريّة الرسميّة، بضرورة انسِحاب جميع القوّات التركيّة، ومُكافحة “مُشتركة” للجماعات الإرهابيّة التي تُهدّد البلدين وإحياء المُعاهدات السّابقة في هذا الصّدد وأبرزها مُعاهدة أضنة عام 1998، وبطَلبِ الرئيس بوتين وضمانته.
العبارة التي تحتل مكانةً هامّة في حديث الرئيس أردوغان في رأينا تلك التي تساءل فيها قائلًا “لماذا نستضيف أربعة ملايين لاجئ سوري، ونتحمّل عِبْأهم الأكبر؟ هل من أجل أن نستمر في حالةِ حربٍ مُستمرّة مع “النظام” السوري؟ وأجاب بالنّفي، وقال “بل بسبب روابطنا مع الشعب السوري من حيثُ قيم العقيدة، والمرحلة المُقبلة ستحمل الخير أكثر”.
التصريحات التي أدلى بها السيّد جاويش مولود أوغلو حول حديثه عن ضرورة المُصالحة بين تركيا وسورية أثناء لقائه العابر مع نظيره السوري فيصل المقداد في بلغراد، لم تكن بالونات اختِبار وإنّما تمهيدٌ مُتدرّج للعودة إلى الحِوار مع القيادة السوريّة لتحقيق هذه المُصالحة وبِما يُرضِي الطّرفين.
نحمد الله أن الرئيس أردوغان قد اعترف بعظمة لسانه أن الولايات المتحدة وقوّات التحالف هُم المُغذّون للإرهاب في سورية في المقام الأوّل، وهذا ينطبق ليس على الجماعات المسلّحة المُعادية لتركيا فقط وإنّما لسورية أيضًا، وكم وجد الكثيرون الذين أكّدوا على هذه الحقائق الدّامغة آذانًا صاغية من الرئيس التركي ومُستشاريه، بل والأكثر من ذلك جرى تصنيفهم في خانة الأعداء.
الرئيس أردوغان بات يُدرك جيّدًا أن الوقت ليس في صالحه مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسيّة في شهر حزيران المُقبل، وأن قضيّة اللاجئين السوريين ستكون الورقة الأقوى فيها التي ستُوظّف ضدّه وحزبه الحاكم، في ظِل تصاعد عداء قِطاعات كبيرة من الشعب التركي لهم، خاصَّةً أن المُعارضة التركيّة المُكوّنة من ستّة أحزاب تملك برنامجًا سياسيًّا واقتصاديًّا وإنسانيًّا مُحكَمًا لإعادتهم إلى بلادهم بالتّفاهم مع السّلطات السوريّة.
السُّؤال الذي يطرح نفسه بقوّةٍ هو كيفيّة تعاطي القيادة السوريّة مع تصريحات الرئيس أردوغان هذه، وهي التي التزمت الصّمت المُطبِق تُجاه أُخرى مُماثلة، وردت على لسان وزير الخارجيّة أوغلو، والسيّد دولت بهشتي زعيم الحزب القومي وحليف أردوغان الأوثق؟
نُدرك جيّدًا أن الجُرح السّوري عميق، على الصّعيدين الرسمي والشعبي، فالضّرر الذي لحق بسورية على مدى السّنوات العشر “السّوداء” الماضية، سواءً بسُقوط مِئات آلاف الشّهداء، أو دمارٍ شامِل للمُدُن، ونهب الثروات، من الصّعب تقديره ماديًّا ونفسيًّا لضخامته، بسبب التدخّل التركي عسكريًّا وسياسيًّا في شُؤون دولة (سورية) لم تُسيء مُطلقًا لتركيا وكانت تعتبرها حليفًا، بل شقيقًا، ولكنّ سورية المُنتصرة الصّامدة قد تَسمُوا على الجُرح، وتُصافح اليد التي امتدّت لها، فمصالح الدّول والشّعوب تتقدّم دائمًا على الاعتِبارات والآلام الشخصيّة.
تركيا أردوغان تتغيّر مُضْطرّةً، بل مُكرَهةً، ولعلّ إحراق العلم التركي في شمال سورية احتجاجًا على هذه الرّغبة بالمُصالحة مع دِمشق، وطيّ صفحة الخِلاف بمثابة الصّدمة التي كان الرئيس التركي بحاجةٍ ماسّة إليها لكيّ يصحو من كابوسه السوري، ويتراجع عن “عِناده” الذي بدأ يُعطي نتائج عكسيّة.
الدّهاء السوري، وسياسة الصّبر والنّفس الطّويل، والإيمان بحتميّة النّصر، والقِتال حتى آخر نُقطة دم حفاظًا على الدولة السوريّة وأراضيها الطّاهرة، يبدو أنها استراتيجيّة بدأت تُعطي ثِمارها، وسواءً بدأ الحِوار السوري التركي المُتوقّع أو لم يبدأ، ونُرَجِّح بدايته قريبًا جدًّا بسبب رعاية بوتين له، مع التّأكيد مَرّةً أُخرى أنّنا مع المُصالحة على أُسسِ النديّة والمُساواة، واحتِرام مصالح الجميع، وقُدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان رَمْزًا للتّسامح والغُفران.. والأيّام بيننا.
Views: 4