تحوّلت التعاميم التي تنظّم سحب الودائع إلى همّ يؤرق المصارف. فالعمل بهذه التعاميم، التي وُضعت مؤقتاً ريثما تبصر خطة التعافي النور، يبدو أنه سيطول. ومع كل يوم إضافي تكبر فاتورة البنوك لدى «المركزي»، ويزيد تململها ومحاولاتها التملّص من هذا الحمل. إلا أن مصرف لبنان الذي أوجد المشكلة لا يملك الحلّ فحسب، إنما يستطيع أن يوظفه في خدمة سياسته النقدية، والإستمرار في اللعب على حبلي الليرة والدولار.
دائماً ما تأخذنا التحليلات المصرفية باتجاه ديون المصارف إلى مصرف لبنان. وحول هذه الديون المسمّاة «الفجوة»، المقدّرة قيمتها بـ 72 مليار دولار تتركز كلّ المعالجات. فنادراً ما يتطلع المراقبون والخبراء إلى مصير دين مصرف لبنان على المصارف. يمكن لأن حجمه أقل، ويمكن لأنه لا يطول المودعين بالمباشر في الوقت القريب. إلا أن الأكيد أن لهذا الدين تأثيراً، خصوصاً إذا صدقت الأخبار التي تشيع تحضير المصارف و»المركزي» تسوية تقضي بدفعه على أساس 8000 ليرة للدولار.
ماهيّة الدين
لـ»مصرف لبنان ديون على المصارف، وهذا أمر حتميّ»، يقول خبير المخاطر المصرفية د. محمد فحيلي. فالمصارف لديها توظيفات في «المركزي» بالليرة والدولار. والأخير يؤمّن السيولة للمصارف من أجل تسهيل تطبيق التعميمين 151 و158 اللذين ينصّان بالتوالي على إعطاء الودائع بالدولار على سعر صرف 8000 ليرة، وتسديد الودائع مناصفة بين الدولار بمقدار 400 دولار نقداً و400 أخرى بالليرة تدفع على سعر صرف 12 ألف ليرة. وهذه السيولة ولا سيما منها المتعلّقة بالليرة تأتي من توظيفات المصارف في «المركزي». ومن هذه التوظيفات هناك المستحقة، أي تلك التي يمكن السحب منها وغير المستحقة. وقد حاولت المصارف طيلة الفترة الماضية تقييد السحوبات بشكل كبير على الليرة اللبنانية وعرقلتها ولا سيما للمؤسسات، بهدف حماية توظيفاتها في «المركزي» من التآكل. في المقابل يتقاضى «المركزي» عمولة على تسييل هذه التوظيفات غير المستحقة لتلبية متطلبات زبائنها. وعليه يهم المصارف تسديد التزاماتها لمصرف لبنان أو دينها على سعر 8000 ليرة قبل أن نصل إلى تحرير سعر الصرف. وتضطر ساعتذاك لتسديد الفروقات على سعر أعلى بكثير، مثل سعر منصة صيرفة الذي يبلغ اليوم 29800 ليرة أو حتى على سعر السوق.
قروض قديمة!
من الجهة الأخرى هناك قروض منحها مصرف لبنان للمصارف في الفترة التي سبقت الأزمة لتعزيز سيولتها، أو لتمويل مشاريع قروض تتعلق بالطاقة النظيفة أو الصناعة الرقمية… أو خلافه من المشاريع التنموية. ورغم الاعتقاد أن تكون المصارف قد سبق وسددتها نظراً لطبيعتها القصيرة الأجل، إلا أن فحيلي لا يستبعد أن تكون البنوك تتفاوض على تسديد المتبقي منها أو المعلق، على سعر 8000 في الوقت القريب خوفاً من تغير سعر الصرف.
الديون بالدولار
إذاً تملك المصارف في «المركزي» حسابين: الأول وديعة مجمدة أي حساب شهادة الايداع، والثاني حسابٌ جارٍ ويتعلق باحتساب تسديد الودائع وفقاً للتعاميم ويعتبر ديناً على المصارف. و»للمركزي مصلحة في الإبقاء على الفجوة الدائمة بينه وبين المصارف معلقة والتفاوض معها لتسديد ديون الدولار المترتبة على تطبيق التعميم 158 الذي ينص على إعطاء كل مودع 400 دولار بالدولار، على سعر صرف 8000 ليرة»، برأي المستشار المالي د. غسان شماس، «لأنه يضرب بذلك عصفوري امتصاص السيولة ومساعدة المصارف بحجر تسديد الديون الواحد، ولو على كان سعر 8000 ليرة.
العصفور الأول الذي يسقطه عن شجرة إنفلاش الكتلة النقدية بالعملة الوطنية، هو امتصاص فائض السيولة من أيدي المصارف. حيث يمكن أن تصل السيولة المسحوبة إلى مئات مليارات الليرات. وبذلك يخفّف من قدرة المصارف على المضاربة بشراء الدولار من السوق الموازية.
العصفور الثاني، هو تخفيف أعباء المصارف والتزاماتها. فالمصرف الذي يسدّد بالدولار النقدي للزبائن يغطّي هذا الدين على سعر 8000 ليرة للدولار، وليس على سعر صيرفة أو حتى سعر السوق الموازية». وبهذه الطريقة يعتبر شمّاس أن «المركزي» يكون قد أراح المصارف وخفف عنها حِمل تأمين ملاءة بنسبة 3 في المئة من حجم ودائعها بالدولار كأموال طازجة في المصارف المراسلة، وزيادة رسملتها بنسبة 20 في المئة لتغطية متطلباتها.
تجارة الشيكات
هذه العملية التي تتطلب وجود سيولة بالليرة اللبنانية بين أيدي المصارف، تشجع من يملك الليرات على تحقيق بعض الأرباح فوراً لوصول البنوك إلى هدفها، خصوصاً في ظل عمولة تتراوح بين 18 و20 في المئة، بمعنى أن الشيك بقيمة 100 مليون ليرة يباع بـ 80 مليوناً نقداً. وهنا يرى شماس أن «المؤسسات التجارية الكبيرة لديها مصلحة في استبدال ما تملك من ليرات بشيكات مقابل عمولة 20 في المئة. ولنفترض شركة (X) لديها 500 مليار ليرة سيولة جاهزة بالليرة، تستطيع في هذه الحالة تبديلها بشيك بقيمة 600 مليار ليرة، لتضعه في حسابها واستبداله في ما بعد بالدولار على منصة صيرفة. وهو الأمر الذي يدخلنا بحسب شماس بالهدف الثالث الذي قد يصيبه أيضاً مصرف لبنان وهو «رقمنة العملة». بمعنى أن التعاطي يصبح بالشيكات وليس بالنقد الورقي. إلا انه يبقى حجم تدخل «المركزي» في تحويل الليرات إلى دولارات وخصوصاً بما يتعلق بتجار المحروقات، مؤثراً على حجم العمولة التي قد تدفعها المصارف مقابل شيكات الليرة. وهو الأمر الذي يؤدي إلى انخفاضها من 20 في المئة إلى حدود 5 في المئة.
الحديث عن إمكانية تسديد المصارف ديونها الدولارية بالعملة الوطنية على سعر صرف 8000 ليرة، يتزامن مع إصدار قرار بخفض صيرفة إلى 400 دولار بدلاً من 500 دولار. وهي كلها إجراءات تندرج برأي شماس تحت محاولة ضبط فائض السيولة المتوقعة. خصوصاً مع إقرار موازنة بنفقات تصل نظرياً إلى 40 ألف مليار ليرة، فيما قد تتخطى هذا الرقم بكثير على أرض الواقع. وعليه فهي تهدد بازدياد هائل بالكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار «تربلة» رواتب حوالى 420 ألف موظف بين فاعل ومتقاعد في القطاع العام.
Views: 4