رامي الشاعر
أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية، مساء يوم أمس الثلاثاء، 27 سبتمبر، أن تل أبيب لن تعترف بنتائج الاستفتاء الذي أجري في 4 مناطق شرق أوكرانيا، والذي يشير إلى “أغلبية ساحقة” لصالح ضم هذه المناطق إلى روسيا.
نذكر جميعا انقطاع العلاقات السوفيتية الإسرائيلية، عقب عدوان عام 1967، وحتى عام 1991 مع تفكك الاتحاد السوفيتي، كما نرى بكل وضوح ذلك الحماس الملفت والمستميت من جانب إسرائيل في الدفاع عن مواقف وخطط واشنطن، وبذل الغالي والنفيس من أجل الحفاظ على نظام الهيمنة وأحادية القطبية لإرضاء السيد الأمريكي، جمهوريا كان أو ديمقراطيا لا يهم، الذي يضمن لدولة الاحتلال دور شرطي العالم الذي يضمن أمنها وحدودها وقدرتها المستدامة على النهب والسلب واغتصاب الأراضي والممتلكات والاستيطان والقمع والعربدة دون حساب، في حماية “الفيتو” الأمريكي بمجلس الأمن.
وكان الكرملين والخارجية الروسية قد أعربا الصيف الماضي عن أسفهما بشأن “المواقف غير البناءة لإسرائيل، والسياسة التي تنتهجها في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك موقف تل أبيب من الوضع في أوكرانيا”، وانتقدا تصريحات إسرائيل لدعم النظام في كييف.
في سياق آخر، كانت الرباعية الدولية، في اجتماعها الأخير بأوسلو، نوفمبر 2021، قد أعربت عن قلقها البالغ إزاء التطورات في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، بما في ذلك أعمال العنف المستمرة في الضفة والشروع ببناء وحدات استيطانية جديدة، ودعت جميع الأطراف لاتخاذ خطوات إضافية لمواجهة هذه التحديات بشكل مباشر، مشددة على ضرورة تجنب الخطوات الأحادية التي تؤدي إلى تفاقم التوترات وتقويض آفاق السلام.
جميعنا يذكر كذلك إعلان السفير الأوكراني لدى تل أبيب، يفغيني كورنيتشوك، خلال مراسم احتفالية بمرور 30 عاما على العلاقات الأوكرانية الإسرائيلية، ديسمبر الماضي، عن أن بلاده “قد تعترف قريبا بالقدس عاصمة وحيدة لإسرائيل”، معربا عن أمله في فتح فرع لسفارة بلاده في القدس العام المقبل (2022) خلال زيارة الرئيس الأوكراني إلى البلاد.
ومع بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، اتخذت إسرائيل موقفا سياسيا واضحا منحازا إلى أوكرانيا، كطفل أمريكا المدلل في الشرق الأوسط، الذي يدعم طفل أمريكا المدلل في أوروبا، وهو ما يمكن تفسيره ببساطة بمحاربة دولة الاحتلال للتغيرات التكتونية التي حلت بالنظام العالمي، ليتحول من الأحادية القطبية نحو التعددية القطبية، التي ستجبر الجميع على احترام قرارات هيئة الأمم المتحدة، إذا ما تمكنت المنظمة من إعادة الهيكلة والتغيير وفقا للمعطيات الدولية الجديدة، أو إنشاء منظمة دولية جديدة لا تهيمن فيها قوة واحدة على مقادير العالم. والسبب وراء ذلك الموقف هو ما يحمله الالتزام بقرارات الأمم المتحدة من تهديدات للدولة المارقة، إسرائيل، وتحديدا فيما يخص الاعتراف بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو حزيران 1967 وعاصمتها القدس.
لهذا السبب تسعى إسرائيل لهزيمة روسيا، وإشعالها من الداخل، بسبب موقف روسيا المبدئي من القضية الفلسطينية، والذي يتطابق مع قرارات الشرعية الدولية والأمم المتحدة في الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وعلى كافة أراضي حدود الرابع من يونيو حزيران 1967، والانسحاب من الجولان السورية، والأراضي اللبنانية المحتلة، والتوقف عن الخروقات والتعديات اليومية لقصف الأراضي السورية.
ففي عام 1979 أصدر مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة القرار رقم 446، والذي ينص على عدم شرعية أو قانونية سياسات وممارسات إسرائيل، في إقامة المستوطنات في الأراضي الفلسطينية والأراضي العربية الأخرى المحتلة منذ عام 1967، ويرى أن تلك السياسات والممارسات تشكل عقبة أمام تحقيق سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط. كما يدعو القرار إسرائيل، بوصفها السلطة القائمة بالاحتلال، إلى التقيد الدقيق باتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تنص على أنه “لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحّل أو تنقل جزءا من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها”، وإلغاء تدابيرها السابقة، والامتناع عن اتخاذ أي إجراء من شانه أن يؤدي إلى تغيير الوضع القانوني والطابع الجغرافي أو يؤثر ماديا على التكوين الديموغرافي للأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967، وعلى وجه الخصوص (القدس)، وعدم نقل سكانها المدنيين.
من جانب آخر، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، ديسمبر 2017، عن اعترافها رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل. في مارس 2019، اعترفت الولايات المتحدة بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، وفي نوفمبر من نفس العام، أعلنت بأنها لم تعد تعتبر المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية، وأصبح بإمكان الكنيست الإسرائيلي التصويت على ضمها إلى إسرائيل، حيث يذكر أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة سيتجاوز نصف المليون خلال العالم الحالي، حيث توضح الإحصائيات الأخيرة (حتى يناير الماضي) أن عدد المستوطنين بالضفة الغربية المحتلة قد وصل إلى نحو 492 ألف مستوطن، موزّعين على 150 مستوطنة.
لذلك يسبب الانتقال إلى العالم الجديد متعدد القطبية كابوسا مرعبا بالنسبة لإسرائيل، ولما تمكنت من نهبه وسبه خلال العقود الماضية، فالعالم الذي يدعم فيه الغرب حلفاءه بلا منطق أو أخلاق أو مبادئ، بينما يستغل الدول الفقيرة والمعدمة في إفريقيا، ويبقي على مصالح وقنوات الاستعمار القديم قائمة بلا رحمة، والعالم الذي تملي فيه الولايات المتحدة الأمريكية إرادتها على أغلبية دول العالم، وتدبر الانقلابات وتفتعل الثورات الملونة وتطيح بالأنظمة يأفل وينتهي، لصالح عالم آخر جديد يدعم تضامن الشعوب الحرة فعليا وجديا مع نضال الشعب الفلسطيني العادل من أجل تحرير المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، ومن أجل الحصول على أبسط حقوق الإنسان.
من هذه الزاوية، يصبح تصريح الخارجية الإسرائيلية بصدد عدم الاعتراف بشرعية الاستفتاءات في المناطق المحررة بأوكرانيا مفهوما ومنطقيا، ويصبح دليل إدانة دامغ على تورط إسرائيل في المخططات الأمريكية الغربية التي تستهدف زعزعة الأمن القومي الروسي، بل لا أستبعد أن تكون قد شاركت أساسا في التخطيط لذلك. وقد رأينا كيف أرسلت إلى أوكرانيا، وفقا لمقاطع فيديو انتشرت على مواقع الإنترنت، نخبا من قواتها العسكرية الخاصة لتدريب الأوكرانيين، والمشاركة معهم في محاربة روسيا.
على هذه الخلفية، وفي استطلاع لصحيفة “جيروساليم بوست” الإسرائيلية منذ أيام، يبدو اختيار فلاديمير زيلينسكي في المركز الأول أكثر 50 يهودي تأثيرا حول العالم لعام 2022، أمرا طبيعيا ومنتظرا، بينما تكتب الصحيفة أن “الحرب الروسية الأوكرانية جعلت منه أيقونة عالمية”. بالطبع، فزيلينسكي، بالنسبة لإسرائيل، وللولايات المتحدة الأمريكية، هو الخادم المخلص المطيع، الذي “يرقى لكي يكون أيقونة عالمية”.
لقد حاولت القيادة الروسية أكثر من مرة، خلال السنوات الأخيرة، تحذير المسؤولين الإسرائيليين من مغبة النوايا التي كثيرا ما تترجم إلى إجراءات وسياسات تضر بالأمن القومي الروسي، إلا أن إسرائيل لم تستجيب، واستمرت على نفس الخط.
واليوم، اكتملت الصورة، وأصبح من الواضح أن إسرائيل، حينما تكثف عملياتها بقصف الأراضي السورية، فإنها تنفذ بذلك أوامر “البنتاغون”، وحينما تساهم بحماس في الحملة الإعلامية ضد روسيا، فإنها تنفذ بذلك خطط المخابرات المركزية الأمريكية، شأنها في ذلك شأن الضربات الموجهة من راجمات الصواريخ الأمريكية “هيمارس” التي تستهدف الصحفيين والمدنيين بمباركة وتنسيق وعمداً مع سبق الإصرار والترصد من جانب “البنتاغون” ومستشاري “الناتو” بأياد أوكرانية.
إن من بين أهداف تكثيف الضربات الإسرائيلية على سوريا وقصف مطارات دمشق وحلب افتعال صدام عسكري بين القوات الروسية المتواجدة هناك وإسرائيل، بالتوازي مع ما يحدث في أوكرانيا، لتوريط روسيا بصدام مع إسرائيل، لتتدخل الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال قواعدها العسكرية في بعض البلدان العربية وإسرائيل، وهو ما تدرك روسيا مخاطره، حيث أن التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط بإسرائيل والأردن وبعض دول الخليج لا يمكن مقارنته بالتواجد المتواضع لروسيا في سوريا.
لم تستوعب إسرائيل معنى التنسيق الثلاثي لمسار أستانا (روسيا، إيران، تركيا)، والذي أفشلت مخططات الغرب في سوريا والمنطقة، والتي أعلنت بوضوح عن عدم سماح تلك الدول باستخدام التناحر الطائفي والعرقي في المنطقة لخدمة الأهداف الأمريكية والإسرائيلية.
لهذا السبب لم تنزلق روسيا إلى هذا الاستفزاز، وعالجت وتعالج الأمور بأكبر قدر من الحكمة، وتستند في قراراتها الاستراتيجية والمصيرية إلى صوت الشعوب، وهو بالتحديد ما حدث خلال الأيام الخمس الماضية في المناطق المحررة بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك ومنطقتي زابوروجيه وخيرسون، التي صوتت بأغلبية ساحقة للعودة إلى أحضان الوطن الأم، روسيا.
إن تلك الاستفتاءات تؤكد على مدى أهمية حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو ما سينطبق على عودة الأراضي الفلسطيني المحتلة للشعب الفلسطيني، الذي يملك وحده الحق في تقرير مصيره في دولته الفلسطينية المستقلة.
أما الولايات المتحدة الأمريكية التي اعترفت بضم القدس الشرقية، وبالمستوطنات وبضم الجولان وبالتعدي على المقدسات الإسلامية، فلا يحق لها ولحلفائها أن تقيم شرعية أي استفتاء حقيقي لإرادة الشعوب الحرة، التي تسعى للسلام والأمن والاستقرار استنادا لأصولها التاريخية.
كاتب ومحلل سياسي فلسطيني
Views: 4