وهل هي بداية النّهاية لمحطّاتٍ إذاعيّة وتلفزيونيّة أوروبيّة وأمريكيّة وروسيّة ناطقة بالعربيّة؟ ولماذا تترحّم عليها الملايين؟
بعد 84 عامًا من البث، قرّرت إدارة مُؤسّسة الـ”بي بي سي” العالميّة إغلاق محطّتها الإذاعيّة النّاطقة باللّغة العربيّة، الأمر الذي كانَ له وَقعُ الصّدمة على ملايين المُستمعين في المِنطقة العربيّة خاصَّةً من الجيل القديم الذي كان مُدمِنًا على سماعِ برامجها ونشَراتها الإخباريّة ليلًا ونهارًا، ويرى فيها الكثير من المهنيّة، ونوعًا من الحياديّة في ظِل وجود محطّات عربيّة رسميّة مُنافسة تفتقر مُعظمها إلى أيٍّ منهما، وتعكس جُلّها الإعلام المُوَجَّه والتّعبوي في أوضحِ صُوره، إعلام استقبل وودّع ونفى.
لم تُعلن مُؤسّسة الـ”بي بي سي” أسباب إغلاقها محطّاتها الإذاعيّة العربيّة والفارسيّة والصينيّة والبنغاليّة والإبقاء على نظيراتها بمُختلف اللّغات الأُخرى، غير القول بتقليص التكاليف الماديّة، وتسريع التحوّل صوب المُحتوى الرّقمي، والتّركيز على الملفّات الأسخن مِثل الحرب الحاليّة في أوكرانيا، لكنّ تراجع المصالح البريطانيّة والدّور السّياسي في الوطن العربي وإيران، وزوال الامبراطوريّة، وارتفاع سقف المهنيّة في بعض محطّات التّلفزة والإذاعة العربيّة في الفترة الأخيرة بسبب المُنافسة الشّرسة بين الحُكومات، و”جيل رقمي” وتوفّر العوائد النفطيّة المِلياريّة ربّما تكون أبرز الأسباب الحقيقيّة التي تقف وراء هذه الخطوة.
محطّة الـ”بي بي سي” الإذاعيّة اتّفقنا معها أو اختلفنا، كانت مدرسةً إعلاميّةً استقطبت الملايين من العرب خاصَّةً بعد تراجع دور بريطانيا الاستِعماري، وغياب الشّمس عن امبراطوريّتها، ووجود العديد من الأساتذة النّجوم الذين كانوا يُقدّمون برامجها أو يُعدّون ويُلقون نشَراتها الإخباريّة، أمثال الطيّب الصالح، وحسن الكرمي، وعبلة خماش، ونديم صوالحة، ومديحة المدفعي، وماجد سرحان والقائمة تطول، وجميل عازر، وسلوى الجراح، ونور الدين زورقي، وفؤاد عبد الرازق، وهدى الرشيد، ومحمود المسلم.. والقائمة تطول.
راديو الـ”بي بي سي” الذي كان يبدأ نشراته بدقّات ساعة “بيغ بين” الشّهيرة “وهُنا لندن” أصبح تاريخًا بعد إحالته إلى التّقاعد، واعتِرافه بالهزيمة في مُواجهة “سونامي” الإعلام الرّقمي المُتَمثّل في وسائل التّواصل الاجتماعي من “اليوتيوب” “والتويتر” و”الفيسبوك” “والتيك توك” و”الانستغرام”، و”التلغرام” والقائمة تطول أيضًا.
محطّات التّلفزة وإذاعات عربيّة وصُحف إلكترونيّة عربيّة جرى ويجري إنفاق مِئات الملايين من الدّولارات سنويًّا لتغطية نفقاتها، تفتقد مُعظمها إلى أبرز هدفين للإعلام عُمومًا، وهُما الانتشار والتأثير، والسّبب هو غِياب الحُريّات وحتّى الحدّ الأدنى منها، وتدخّل أصحاب القرار في توجيه سِياساتها، رغم توظيف الكفاءات المهنيّة العالية وبمُرتّباتٍ مُرتفعة، وهذا ما قد يُفَسِّر الهِجرة المُعاكسة لوسائل الإعلام العربيّة “المُهاجرة” في أوروبا إلى أوطانها الأصليّة، بعد فشل مُعظمها في الوصول إلى المُستَمِع أو القارئ أو المُشاهد العربي.
كَثيرٌ من المُستمعين العرب الذين أدمنوا الـ”بي بي سي” ونشَراتها وبرامجها، وأطقمها، سيفتقدونها حتمًا، رُغم مُؤاخذات البعض وانتِقاداتهم ذات الطّابع السّياسي لها، لعدم نسيانهم التّاريخ الاستعماري للحُكومات التي تقف خلفها، إلا أنها كانت صرحًا ومدرسةً إعلاميّةً تَخرّج منها الكثير من المُبدعين، ومُعظمهم نقل خبراته إلى بُلدانهم الأصليّة ولعبوا دورًا أساسيًّا في تطوّر مُؤسّساتها الإعلاميّة أو أُخرى عربيّة رُغم سقف الحُريّات المحدود، وسُوء الإدارة، والمحسوبيّة في التّشغيل.
إغلاق محطّة إذاعة “بي بي سي” العربيّة قد يكون بداية النّهاية للعديد من مثيلاتها السّمعيّة مِثل “مونت كارلو” و”صوت أمريكا”، والبصريّة مِثل “الحرّة” و”فرانس 24″ و”دوتش فيله” و”روسيا اليوم” وتلفزيون “بي بي سي” العربي، وقد تنتقل العدوى لبعض محطّات التّلفزة الرسميّة العربيّة أيضًا، والمسألة مسألةُ وقت، فنحنُ أمام ثورةٍ رقميّةٍ، وارتِفاع مُستوى الوعي.
راديو الـ”بي بي سي” العربيّ تظل إيجابيّاته كبيرة في الحِفاظ على اللغة العربيّة، والمهنيّة الإعلاميّة، واحتِرام المُستمع، وستترك فراغًا كبيرًا في الخريطة الإعلاميّة العربيّة.
“رأي اليوم”
Views: 4