.. لماذا ردّ الرئيس السوري بقُوّةٍ على أحد المُعترضين على المُصالحة وماذا قال؟ ولماذا أُختير الحية دُونَ غيره لقِيادة وفد الحركة.. وما هي الرّسالة “المُهمّة” التي حمَلها للقِيادة السوريّة؟
عبد الباري عطوان
تُشَكّل زيارة وفد من حركة المُقاومة الإسلاميّة “حماس” برئاسة الدكتور خليل الحية مسؤول العلاقات العربيّة في مكتبها السياسيّ إلى العاصمة السوريّة دِمشق خطوة إنجازيّة مُهمّة على صعيد إعادة العلاقات مع الدّولة التي كانت الحاضِنة الأكثر دِفْئًا للحركة بعد أن أغلقت مُعظم العواصم العربيّة أبوابها في وجهها، مثلما تُشَكّل توحيدًا وتصليبًا لمحور المُقاومة في مُواجهة العدوّ الإسرائيلي والمُؤامرة التي تستهدف الأُمّة العربيّة وعلى رأسِها سورية.
لا بُدَّ من الاعتِراف بأنّ السيّد حسن نصر الله أمين عام “حزب الله” وقائد المُقاومة الإسلاميّة في لبنان لعب الدّور الرّئيسي في تحقيق هذا الإنجاز، ووضع كُل ثقله من أجل عودة العلاقة بين حركة “حماس” والقِيادة السوريّة إلى طبيعتها وبشَكلٍ مُتدرّج، رُغم حجم الألم السوري، الرّسمي والشّعبي، من مواقف الحركة الإسلاميّة الفِلسطينيّة، خاصَّةً تلك التي تمثّلت في قرار قِيادتها السّابقة في حيث الخُروج من سورية، وتأييد أهداف المُعارضة المُسلّحة في إسقاط النظام السوري، والإقامة في قطر وتركيا رأسيّ الحِربَةِ في هذا المشروع.
القِيادة السوريّة تجاوبت مع جُهود الوِساطة هذه تقديرًا للسيّد نصر الله ومكانته وحزبه لديها، وكانت أكبر من أن تفرض أيّ شُروط، مِثل الاعتذار، لأنّها أكبر من ذلك، وتترفّع عن الأحقاد، ولا تُغيّر مواقفها الرّاسخة في دعم المُقاومة الفِلسطينيّة بكُلّ أشكالها، وبغضّ النظر عن أيديولوجيّاتها، فالأساس هو مُقاومة الاحتِلال التي تَجِبُّ غيرها من تحفّظاتٍ أو اختِلافات، وتَغفِر كُلّ الأخطاء.
اختيار الدكتور خليل الحية لكيّ يكون مُمثّل حركة “حماس” أثناء لقاء وفد فصائل المُقاومة بقيادة السيّد زياد النخالة أمين عام حركة الجِهاد الإسلامي مع الرئيس بشار الأسد كان اختيارًا مُوفَّقًا ومدروسًا، فالرّجل يملك احترامًا وتقديرًا كبيرين في أوساط حركة “حماس” قيادةً وكوادِرًا، وفي أوساط جناح القسّام العسكري وقياداته الميدانيّة على وجْه الخُصوص، والأهم من كُلّ ذلك أنّه جاء إلى دِمشق من غزّة التي تُقيم فيها عبر الجزائر، وقدّمت عائلته 19 شهيدًا من بينهم ابنه وأحفادًا له، أُسْوَةً بعائلاتٍ فِلسطينيّةٍ عديدةٍ، وكانَ الرئيس الأسد مُرتاحًا لوجوده وصافحه بابتسامةٍ حارّة، وتبادل معه الحِوار، حتى أنّ الرئيس الأسد تصدّى بقُوّةٍ لأحد الأُمناء العامّين لفصيلٍ فِلسطينيٍّ مُوالٍ جدًّا لسورية كان حاضِرًا اللّقاء عندما قال القائد المذكور إنّ كوادر فصيله الذين يزيد تِعدادهم عن عشرين ألفًا يُعارضون بالإجماع عودة العلاقة بين سورية وحركة “حماس”، فرَدّ الرئيس الأسد بحَزمٍ عليه بالقول “إن هذه الصّفحة قد طُويت كُلِّيًّا، ولا عودة إلى الوراء مُطلقًا”.
الدكتور الحية، وكما ظهر في الصّور، كانَ هاشًّا باسِمًا أثناء مُصافحته الرئيس الأسد، وحسب ما نقل لنا أحد من حضروا اللّقاء، وقال للرئيس: “إنّني أحمل إليك سيادة الرئيس رسالة تحيّة ومحبة وتأييد لك ولسورية من قيادة كوادر كتائب القسّام الجناح العسكريّ للحركة”، وكرّر الدكتور الحية ما تضمّنته بياناتها الأخيرة التي “أشادت فيها بالقِيادة السوريّة واحتِضانها للمُقاومة الفِلسطينيّة، وجدّدت اعتِرافها بدور سورية الكبير في دعم القضيّة الفِلسطينيّة”.
المُقاومة الفِلسطينيّة في القِطاع والضفّة والمناطق المُحتلّة عام 1948 لا يُمكن أن تنسى موقف القِيادة السوريّة في إرسال شُحنات من صواريخ “الكورنيت” التي حرّمت على الدبّابات الإسرائيليّة اقتِحام قِطاع غزّة، وأذلّت أُسطورة دبّابة “الميركافا” فخْر الصّناعة العسكريّة الإسرائيليّة، والسُّؤال: ماذا قدّمت الدّول الأُخرى، وكَمْ رصاصة، ولا نقول صاروخًا، أرسلت للمُقاومة الفِلسطينيّة في غزّة والضفّة؟
كان لافتًا أنّ من أبرز ثِمار هذه الانفِراجة افتتاح مكتب لحركة “حماس” في العاصمة السوريّة يُقيم فيه أحد مُمثّليها ومنحه سيّارة وسائق وذلك كخُطوةٍ أُولى على طريق الاستِعادة الكامِلة للعلاقات، وعودتها إلى ينابيعها الأولى.
صحيح أن هذه الخطوة التصالحيّة ذات المُنطَلقات الوطنيّة الصّرفة، مع الدولة السوريّة التي تجاوزت المُؤامرة، واستَعاد جيشها العربيّ السّيادة على مُعظم أراضيها، تعرّضت لبعض الانتِقادات من داخِل “حماس” وخارجها، ولم نسمع أيّ انتقادات مُماثلة للقِيادة التركيّة سواءً استِعداد رئيسها أردوغان للقاء الأسد في أقرب فُرصة، أو إعادته للعلاقات الكامِلة مع دولة الاحتِلال، ولكنّ السيّد الحية كان بليغًا في صلابة ردّه عندما قال في مُؤتمره الصّحافي الذي عقده في قلب العاصمة السوريّة بعد لقاء الرئيس الأسد “إنّ قرار الذّهاب إلى دِمشق صدر بالإجماع، وسيَلتَزِم به الجميع ومن لن يلتزم لا مكان له في الحركة”.
“حماس” تصالحت مع دولة خاضَ جيشها أربع حُروب ضدّ العدوّ الإسرائيليّ، وخسرت هضبة الجولان في إحداها، ودعمت، وما زالت، الشّعب الفِلسطيني ومُقاومته، ورفضت رفضًا مُطلقًا التّطبيع مع دولة الاحتِلال، أو التّنازل عن شِبْرٍ واحد من الأراضي السوريّة والفِلسطينيّة رُغمَ المُغريات الكثيرة، ولو لم تتمسّك بهذه الثّوابت الوطنيّة لما تعرّضت ما تعرّضت له طِوال السّنوات العشْر الماضية، نقول ذلك رُغم تحفّظاتنا على بعض السّياسات الرسميّة لسورية، وهذه مَسْألةٌ أُخرى.
Views: 3