للمُصالحة والتّطبيع.. وعلى ماذا يُراهنان؟ وكيف أصبحت دِمشق “تتدلّل” أمام “الغزل” التّركي و الكُردي هذه الأيّام ومن الذي سيفوز بقلبها؟ وهل يُقامر الجيش التركي باجتِياح برّي لشِمال سورية؟
لا يَمُرّ أسبوع دُونَ أن يَذكُر الرئيس رجب طيّب أردوغان رغبته في لقاء الرئيس السوري بشار الأسد، والآن، وبعد لقائه بالرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي أثناء افتتاح فعاليّات مونديال الدّوحة بات يتطلّع إلى ترجمة المُصافحة مع نظيره المِصري إلى خطواتٍ عمليّةٍ نحو مَزيدٍ من تطبيع العلاقات بين البلدين اللّذين ناصبهما العداء طِوال السّنوات العشر الماضية.
اللّافت أن الحديث سواءً عن الرّغبة في لِقاء قمّة مع الرئيس السوري، أو إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع مِصر، يأتي من الجانب التركي، أيّ أنّنا أمام طريق من اتّجاهٍ واحد، بينما يلتزم الرئيس الأسد الصّمت، ويكتفي الجانب المِصري ببياناتٍ “عُموميّةٍ” بالتّأكيد على عُمُق العلاقات بين البلدين.
ما نُريد استِخلاصه من رصد تطوّرات هذا المِلف، والتّصريحات المُتعلّقة به، أن الرئيس أردوغان في عجلةٍ من أمْره، ولأسبابٍ تركيّةٍ داخليّةٍ، لتطبيع العُلاقات مع الجارة السوريّة، والخصم المِصري السّابق، بينما لا يبدو أن الجانبين المِصري والسوري، يُبادلانه الشّيء نفسه، وربّما يُراهنان على عُنصر الوقت انتِظارًا لمعرفة نتائج الانتِخابات الرئاسيّة والتشريعيّة في حزيران (يونيو) المُقبل، حيث تُشير مُعظم نتائج استِطلاعات الرّأي إلى تراجع شعبيّة الرئيس التركي وحزب العدالة التنمية الذي يتزعّمه، واحتِمال عودة تحالف المُعارضة وأحزابه الستّة إلى السّلطة.
الرئيس أردوغان يُواجه تحدّيًا خطيرًا هذه الأيام يتمثّل في تصعيدٍ لافت لعمليّات حزب العمّال الكردستاني، وذراعه العسكري (وحدات حماية الشّعب الكردي في سورية) سواءً باستِهداف العُمُق التركي (عمليّة تفجير مُؤخَّرًا في ميدان تقسيم السّياحي)، أو على أهدافٍ قريبةٍ من الحُدود التركيّة السوريّة، وأثار الهُجوم الذي شنّته طائراته على أهدافٍ كُرديّة في شِمال كُل من سورية والعِراق أغضب أصدقائه سواءً في أمريكا أو روسيا.
الهُجوم الجوّي الذي جاء انتِقامًا لتفجير “تقسيم” لم يُحقّق الأهداف المَرجوّة الذي تتطلّع إليه السّلطات التركيّة في اجتِثاث التّهديد الانفِصالي الكُردي، وجاء بمثابة “فشّة خلق”، والاجتِياح البرّي الذي يُلوّح به الرئيس أردوغان أكثر من مرّةٍ قد يُعطي نتائج عكسيّة تمامًا، ليس على صعيد ضخامة الخسائر البشريّة المُحتملة في صُفوف قوّاته، وإنّما أيضًا لمُعارضة القِيادة العسكريّة الأمريكيّة التي تحمي قوّات سورية الديمقراطيّة “قسد” التي تتواجد بقُوّةٍ في شِمال سورية وتدعمها، حيث حذّرت هذه القِيادة تركيا أمس من الدّخول إلى المناطق التي تُسيطر عليها قوّاتها، وهذا التّحذير يعني أن القوّات الأمريكيّة قد تتصدّى لهذا الاجتِياح من قِبَل حليفها التركي، وشريكها في حِلف الناتو.
السيّد أورهان ميري أوغلو القائد البارز في حزب العدالة والتنمية قال في تصريحاتٍ أدلى بها أمس “أن حزب العمّال الكردستاني يحتل حاليًّا أكثر من 400 قرية كرديّة قريبة من الحُدود التركيّة في شِمال سورية ممّا يُشَكّل تهديدًا خطيرًا للأمن القومي التركي، ولكنّه لم يكشف عن موعدِ الهُجوم البرّي الذي قالت صحيفة “وني شفق” التركيّة المُقرّبة من النّظام أنه باتَ وشيكًا جدًّا، بينما أكّد السيّد سليمان صويلو وزير الداخليّة والرّجل الثاني في السّلطة التركيّة أن أمريكا هي التي تقف خلف تفجير إسطنبول.
الاجتياح البرّي التركي لشِمال سورية قد يكون مُكلفًا جدًّا على صعيد الخسائر البشريّة والسياسيّة، علاوةً على كونه غير مقبول من أمريكا وروسيا، وبالطّبع سورية، ولكن الخطر الأكبر أن يُؤدّي هذا الاجتِياح إلى تقاربٍ، وربّما مُصالحة بين السّلطات السوريّة و”قسد” برعايةٍ روسيّة، وعدم مُمانعة أمريكيّة، وهُناك مُؤشّرات على اتّصالاتٍ سريّةٍ بدأت فِعلًا في هذا الاتّجاه خاصَّةً أن قوّات سورية الديمقراطيّة “قسد” علّت من نغمة مُطالباتها بتدخّل هذه السّلطات (السوريّة) لحِمايتها والتصدّي لأيّ توغّلٍ برّي تركي الذي يُشَكّل انتهاكًا للسّيادة السوريّة.
الخطر الأكبر الذي يخشاه الرئيس أردوغان هذه الأيّام يأتي من شقّين، الأوّل: أن يتحوّل شِمال سورية إلى قاعدة، ومنصّة لحزب العمّال الكردستاني ينطلق منها لتكثيف عمليّاته التفجيريّة سواءً في القُرى والمُدُن الحدوديّة المُحاذية، أو في العُمُق التركي على غِرار التّفجير الأخير في إسطنبول، والثاني: أن يُؤدّي هذا التّصعيد إلى انحِدار شعبيّته وحِزبه، وخسارتهما الانتِخابات القادمة، خاصَّةً أن الاقتِصاد في حالٍ من التّدهور، وأن الشعب التركي لا يُمكن أن يتحمّل انهِيارًا أمنيًّا مُوازيًا بخلقِ حالةٍ من عدم الاستِقرار وضرب صناعة السّياحة وهُروب الاستِثمارات الأجنبيّة، وارتفاع نسبة التضخّم وغلاء المعيشة.
الرئيس أردوغان بدأ يُدرك خُطورة حالة الفوضى التي تجتاح شِمال سورية بسبب انخِراطه في المشروع الأمريكي لتغيير النّظام وتحويل أراضي بلاده إلى ممر للمُسلّحين والأموال العربيّة لتمويل وتنفيذ هذا المشروع، مثلما بدأ يُدرك أيضًا أنّ الرئيس الأسد هو الذي منع هجمات حزب العمّال الكردستاني انطِلاقًا من الحُدود السوريّة الشماليّة، ولهذا يُريد التّراجع عن سِياساته هذه، والانفتاح مجددًا على سورية، فاللّقاء مع الرئيس الأسد قد يُعطيه ستّة أشهر ثمينة جدًّا من الهُدوء والتِقاط الأنفاس قبل الانتِخابات المصيريّة بالنّسبة إليه وحزبه.
دِمشق، التي تقف الآن موقف “المُراقب المسؤول” للمأزقين التّركيّ والأمريكيّ في شِمال سورية، باتت تملك كُلّ الأوراق المُهمّة، وربّما الحاسمة في هذا المِلَف، والجميع يطلب ودّها، بشَكلٍ مُباشر أو غير مُباشر، فالمُصالحة السوريّة الكُرديّة كارثة لأردوغان، والمُصالحة السوريّة التركيّة كارثة أكبر للحركة الانفصاليّة الكُرديّة في شِمال سورية.
هل تُنقِذ القِيادة السوريّة الرئيس أردوغان من أزَماته، وتستغلّ ضعفه وحاجته إليها مع اقتِراب الانتخابات، وتحصل على تنازلاتٍ كُبرى منه تلبيةً لشُروطها الأساسيّة، وأبرزها سحب جميع قوّاته من سورية، ووقف دعمه للجماعات المُسلّحة في إدلب وريف حلب وغيرها، أم أنها ستُراهِن على عُنصر الوقت وستتمهّل بالتّالي لمعرفة من الفائز في الانتِخابات المُقبلة التي ترتفع فيها أسهُم المُعارضة التركيّة التي تُريد سحب هذه القوّات، وإعادة جميع اللّاجئين السوريين إلى بلادهم، والعودةِ إلى اتّفاقِ “أضنة” الذي “يُمَأسِس” التّنسيق الأمني الحُدودي المُشترك بين البلدين؟
الكُرة الآن في ملعب دِمشق، وخِيار التّقارب أو التّباعد مع تركيا بين يديّ القِيادة السوريّة وحليفها الروسي، وفي جميع الأحوال ليس لديها ما تخسره، بل كُل المُؤشّرات تُؤكّد أن سنواتها العِجاف قد أوشكت على الانتِهاء، وباتَ موسم الحصاد وشيكًا، ومن يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا.. واللُه أعلم.
Views: 5