ذات صباح اتصل به مدير الإدارة المالية في إحدى الجامعات الخاصة مستفسراً أليس لديك حساب في المصرف الخاص الذي تتعامل معه جامعتنا، فنقوم من خلاله بتحويل رواتبك إليه، ومن ثم لن تضطر إلى حمل الأوراق النقدية؟
قال له الوزير السابق بعد أن جرى تعيينه مؤخراً أستاذاً في تلك الجامعة: لا والله، ليس لي سوى حساب في المصرف العقاري، يحول إليه راتبي التقاعدي بعد أن انتهى تكليفي وزيراً.
قال له المدير: لا عليك، يمكنك متى شئت فتح الحساب في المصرف الذي نتعامل معه، وستسير الأمور كما تشتهي إن شاء الله.
وفي اليوم التالي ذهب صاحبنا الوزير السابق إلى المصرف المذكور فانتظر دوره بين الحضور، وما إن أتى رقمه على اللوحة الإلكترونية حتى استقبله عند باب المكتب موظف أنيق مرحباً به أيما ترحيب، ومظهراً له عظيم محبته واحترامه، فقد عرفه أستاذاً جامعياً بارعاً، تتلمذ على يديه، وتعلم منه أصول المحاسبة والعمل المصرفي.
المهم، بدأت عملية فتح الحساب، وانتهت خلال دقائق، مرفقة بتقديم فنجان من القهوة، مع وداع رقيق يليق بصاحبنا الوزير السابق.
وفي اليوم التالي زار الوزير السابق المدير المالي في الجامعة فأعطاه رقم الحساب الجديد، واطمأن إلى بدء انسياب راتبه إلى ذلك الحساب بكل سهولة ويسر عبر ضغطة إصبع من الهاتف المحمول للمدير المالي.
وبعد بضع ساعات تلقى صاحبنا اتصالاً هاتفياً يدعوه لمراجعة فورية لذلك المصرف الخاص الذي فتح فيه حساباً أمس. استغرب الوزير السابق طلب المراجعة المستعجل، إلا أنه لم يترك للتكهنات أن تستعمر دماغه، فاتجه في صباح اليوم التالي إلى المصرف المذكور ليجد في انتظاره ذلك التلميذ الموظف نفسه الذي فتح له الحساب قبل يومين وهو في غاية الارتباك والحرج، ليصطحبه على الفور إلى مكتب مدير الفرع.
قال له الوزير السابق قبل أن يدخل غرفة المدير: ما الأمر يا بني؟ لمَ يبدو عليك هذا الارتباك؟ هل من مشكلة؟
قال له تلميذه خجلاً: نعم للأسف، هناك إشكالية سيشرحها لك السيد مدير الفرع.
دخل الوزير السابق غرفة المدير فإذا بالمدير نفسه يقوم من خلف طاولته مرحباً بالقادم قائلاً: يا صباح الخير أستاذنا الغالي، صباح السعد لمعالي الوزير الذي يحبه ويقدره كل سوري مخلص وشريف، أياديكم البيضاء تشهد لها الجامعة والوزارة، وأنا شخصياً أتشرف باستقبالكم في مكتبي. ابتسم صديقنا الوزير السابق فرحاً بذلك الاستقبال الجميل، وبتلك الكلمات الرائعة التي دغدغت شغاف قلبه، ما استدعى منه شكر المدير على عاطر الأوصاف ورقيق العبارات. وما إن انتهت لحظات الدبلوماسية حتى أخذ مدير الفرع يتأتئ قليلاً، مظهراً بعض الحرج من قادم كلماته.
قال له الوزير السابق: ماذا بك؟ لماذا أنت مرتبك هكذا؟ هات ما عندك يا أخي!!
قال له المدير: الحقيقة إنها مشكلة أخجل من التفوه بها، وتجعلني محرجاً منكم، لكن أرجو أن تقدروا وضعي.
قال له الوزير السابق: كأنني أشعر بمصيبة قادمة، قل إذا سمحت ما تريد قوله، فقد اعتدت المواقف الصعبة أثناء عملي، ولا أتصور أن ما لديك سيكون أصعب مما شهدت.
قال له المدير، أنتم أستاذ كبير، وأنتم تاج على رؤوسنا، وأنتم.. قاطعه الوزير السابق على الفور قائلاً: أرجوك كفى مجاملات وهات ما عندك، فأنا ليس لدي وقت.. قل ما تريد على الفور.
قال المدير: لقد قمنا قبل يومين بفتح حساب لكم، أليس كذلك؟
قال الوزير السابق مستغرباً: بلى هذا صحيح، وماذا بعد؟
قال المدير: ثم جاءنا لاحقاً قرار من الإدارة العامة للمصرف يأمرنا بإلغاء حسابكم نظراً لكونكم معاقبين بقرار من الحكومة الأميركية كوزير سابق في الحكومة السورية.
دهش الوزير السابق مما سمعه، فقال له بوجه مكفهر: أرجوك أعد على مسامعي ما قلته للتو!! فلعلي لم أسمع جيداً.
قال المدير: نحن مضطرون لإغلاق حسابكم الذي فتحناه نظراً لكونكم معاقبين مصرفياً بقرار من الحكومة الأميركية.
ابتسم الوزير السابق ابتسامة تنمّ عن بالغ اشمئزازه مما سمع ثم قال: ماذا؟ معاقباً مِنْ مَنْ؟ من الحكومة الأميركية؟ وهل أنا في واشنطن حتى يعاقبني الأميركان؟ أم أنا في سورية؟ قل لي أرجوك!!
تأتأ المدير من جديد قائلاً: والله يا معالي الوزير أنا عبد مأمور، وقد تم إبلاغي بما قلته لكم، وأنا في غاية الحرج مما أخبرتكم به.
قال الوزير السابق: يا بني لعلك مخطئ، فحسابي الذي فتحته هو حساب داخلي، وبالليرات السورية، وليس بالدولار الأميركي، كما أنني لا أريد تحويل أي مبلغ منه إلى الخارج، أو حتى إلى أي من المصارف العاملة هنا.
قال له المدير: معكم كل الحق سيادة الوزير، أنتم تتكلمون بالمنطق، لكنني لا أستطيع عصيان أوامر الإدارة العامة، ففيها تسريحي من العمل.
قال الوزير السابق وهو يستشيط غضباً: الله الله .. عقوبات أميركية في قلب العاصمة دمشق؟، أكاد لا أصدق، ثم تنهد تنهيدة حارة كادت تحرق وجه المدير قائلاً له: طيب.. أغلق يا حبيبي أغلق.. الله يفتح عليك أبواب السعادة والهناء.
ودع المدير معالي الوزير طابعاً على وجنتيه قبلتين دسمتين، مع ضمة إلى الصدر، ثم نادى أحد العاملين في المصرف قائلاً له: اصطحب سيادة الوزير إلى مكتبك، وقم بإغلاق حسابه على الفور، ثم التفت إلى الوزير السابق قائلاً باستعطاف بالغ: أرجو أن تسامحني معاليك، فو الله ما باليد حيلة.
جلس الويز السابق على كرسي بقرب طاولة الموظف المسؤول ينجز معاملة إغلاق الحساب بعد أن أخذ مجموعة من المعلومات الشخصية، إضافة إلى بعض التواقيع على أوراق مختلفة. وقبل أن يغادر السيد الوزير طلب منه الموظف المسؤول مبلغ خمسمئة ليرة سورية رسماً لإغلاق الحساب.
لم يتمالك الوزير السابق نفسه فأخذ يضحك بطريقة هستيرية تنم عن عظيم سخطه قائلاً: ما شاء الله، رسم لإغلاق الحساب أيضاً!! بئس الحال حالنا، والله لو فعلها الغرب فينا ونحن في بلاده لقلنا سياسة تجبر وغطرسة، لكن أن تصل به العجرفة إلى فرض مشيئته علينا ونحن في وطننا فإنه لعمري هو الضيم نفسه.
قال الموظف: أعتذر منك يا سيادة الوزير فأنا لا أستطيع التعليق على ما قلت، لكن رسم إلغاء الحساب واجب دفعه في كل الأحوال، إنما لا عليك يا سيدي، فأنا أستطيع تدبر الأمر، حتى لو اضطرني ذلك لأن أدفعه من جيبي، أمهلني دقيقة واحدة!!
أحمر وجه صاحبنا الوزير السابق حتى كاد ينفجر، ثم أخرج من جيبه ورقة نقدية من فئة الألف ليرة سورية قائلاً له: خذ الله يرضى عليك الخمسمئة ليرة رسم إغلاق الحساب و«خلي الباقي عشانك».
الوطن
Views: 7