حين يدور الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن أهمية الاقتصاد الإنتاجي تكون الزراعة في طليعة القطاعات المقصودة بهذا الكلام، جنباً إلى جنب مع قطاعات الصناعة والسياحة والخدمات… وأضيف إليها اليوم قطاع التكنولوجيا والمعلوماتية وهو قطاع واعد نظراً لما يمتلكه لبنان من قدرات وموارد بشرية قادرة على خوض هذا المجال بتفوّق وحِرفية.
وقد بات معلوماً أن لا إنقاذ للبنان من أزماته المزمنة والمتراكمة والمتفاقمة، إلا باعتماد سياسة اقتصادية جديدة قائمة في أساسها على الإنتاج، بشكل يضع حدّاً فاصلاً مع المرحلة السابقة التي قامت على المضاربات المالية والفوائد والرّيع وقضت على ما كان موجوداً من مقومات إنتاجية في مجالات عديدة.
تلك السياسات الخاطئة اعتمدت وسائل عديدة حتى أدّت إلى كلّ هذا الخراب الذي نراه اليوم. بالدرجة الأولى قدّمت للناس، وخاصة لأصحاب رؤوس الأموال، إغراءات كثيرة وكبيرة لكي يُحجموا عن الاستثمار في مشاريع إنتاجية تعود عليهم بأرباح منطقية وطبيعية، مقابل أن يحصلوا على أضعاف تلك الأرباح المتوقعة إذا هم وظفوا أموالهم في حسابات مصرفية وفي سندات الخزينة التي وصلت فوائدها إلى أرقام فلكية…
لم يؤدِّ ذلك إلى إحجام المتموّلين عن الاستثمار في مشاريع جديدة فحسب، بل أدّى أيضاً إلى تخريب المشاريع والمؤسسات القائمة منذ عقود، حيث لم يعد أصحابها يهتمّون بتطويرها وتوسيعها بل بات كلّ همّهم كيف يزيدون حجم ودائعهم في البنوك التي تحقق لهم ما يطمحون إليه من عائدات.
وفي إطار السياسات الخاطئة نفسها أتت اتفاقات التبادل التجاري مع العديد من دول العالم لتزيد الطين بلة، حيث أُعطيت التسهيلات للمستوردين والتجار وتمّ إعفاء معظم السلع من الرسوم الجمركية، الأمر الذي أغرق الأسواق بمنتجات مستوردة أرخص ثمناً من المنتجات المحلية…
هكذا جرى تدمير قطاعات صناعية وزراعية عديدة كانت رائدة في لبنان، وكان إنتاجها يُصدَّر إلى دول العالم ويحظى باهتمام لا بأس به نظراً لجودته وتميّزه أحياناً… ورأينا كيف ضُربت صناعة الأحذية والألبسة والحديد والمواد الغذائية وإلى حدّ كبير صناعة المجوهرات وغيرها من الصناعات التي تميّز بها لبنان في منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
أمام هذا الواقع المأساوي الذي أوصلتنا إليه تلك السياسات، وأمام تقاعس مستمرّ منذ سنوات عن اتخاذ القرارات الإنقاذية الجريئة، أتى اجتماع دمشق بين وزراء الزراعة في لبنان وسورية والعراق والأردن ليعطي بارقة أمل في سلوك اتجاهٍ مغاير يعتمد فعلاً لا قولاً سياسة اقتصاد الإنتاج وهو ما يجعلنا نرى بعض الضوء في نهاية النفق المظلم الذي نخوض اليوم في عتمته.
وهنا يجدر التنويه بجهود وزير الزراعة الصديق الدكتور عباس الحاج حسن ومعه زملاؤه الثلاثة وزير الزارعة والإصلاح الزراعي في سورية المهندس محمد حسان قطنا ووزير الزراعة العراقي عباس العلياوي ووزير الزراعة الأردني خالد الحنيفات، الذين اتفقوا خلال الاجتماع على أمور تفصيلية كثيرة تضمّنها البيان الختامي ومذكرة التفاهم، وذلك لتحقيق الأمن الغذائي وإنشاء منصة لتبادل البيانات الإحصائية وتسهيل انسياب السلع الزراعية ومعالجة الصعوبات التي تواجه الترانزيت ومواجهة التغيّرات المناخية…
لكن الأهمّ هو ما لاحظه المتابعون وأكده الوزير الحاج حسن لجهة الاندفاعة العربية تجاه سورية وتحسّن العلاقات العربية ـ العربية، وهو ما يسهم تلقائياً في تحقيق أهداف الاجتماع الوزاري الزراعي، وفي قطاعات أخرى أيضاً، بحيث يتمّ تعزيز وتطوير العلاقات البينية العربية في كلّ المجالات وتحقيق التكامل العربي، لا سيما في المجال الزراعي والتبادل التجاري، بما يعيد الألق إلى العمل العربي المشترك، ويخدم مصلحة الشعوب العربية.
كذلك كان لافتاً ما قاله الرئيس الدكتور بشار الأسد خلال استقباله الوزراء الأربعة بشأن مذكرة التفاهم للتعاون الزراعي التي تمّ توقيعها بين الدول الأربع، حين أشار إلى أنّ المذكرة تخلق استراتيجية مشتركة للتعاون بين بلداننا العربية، وإذا تمّ العمل على توسيع هذا التعاون ومشاركته مع الدول المجاورة فإنه ستصبح هناك شبكة أمان زراعية وغذائية تخدم شعوب المنطقة كلها.
في المحصلة، نحن اليوم في زمن عربي وإقليمي آخر، ولا بدّ للتفاهمات الحاصلة بين دول المنطقة أن تنعكس إيجاباً على الشعوب، خاصة أنّ منطقتنا غنية بالطاقة والمياه والموارد الطبيعية والبشرية، ولدينا المساحات الخصبة الشاسعة الواسعة، ومن شأن التكامل والتعاون في ما بينها أن يجعلها تحقق الاكتفاء الذاتي وأكثر منه أيضاً، بما يعني أنّ اقتصاد الإنتاج يأخذ مداه الصحيح والطبيعي في كلّ المجالات ليكون في خدمة الناس والمجتمع.
مرة جديدة تحية للوزير الصديق الدكتور عباس الحاج حسن ولزملائه وزراء الزراعة في سورية والأردن والعراق، وتحية لسورية قلعة المقاومة برئيسها المقدام الدكتور بشار الأسد وجيشها الباسل وشعبها الأبي…
Views: 4