تشرين- رصد:
أمام موجات الحر بدأت السياحة تذوب في رمال الرعاية الصحية المطلوبة لتأمين السياح ضد الحر الشديد، وبدأ عدد من المواقع السياحية يغلق أبوابه لساعات عدة خلال أشد فترات اليوم حرارة . واليوم تشهد الدول التي تعتمد على السياحة انخفاضاً حاداً بالزيارات خلال مواسم الذروة، أو أن الشركات لم تعد قادرة على ممارسة الأعمال التجارية خلال الأشهر الرئيسة من العام، وبدأت مقولة “لا يوجد حل لكل مكان، لكن يوجد حل لكل شخص” تجد آذاناً مصغية.
لكن الأثر الاقتصادي لما يحذر الخبراء من أنه قد يكون حقبة جديدة من درجات الحرارة القياسية يتجاوز موضوع السياحة. إذ تستعد الصناعات التي تراوح من البناء إلى التصنيع والزراعة والنقل والتأمين للتغييرات في طريقة عملها، حيث تصبح أيام درجات الحرارة المرتفعة أكثر روتينية بسبب تغير المناخ.
إن العلماء واضحون بقولهم إن الظواهر الجوية المتطرفة، بما في ذلك موجات الحر، ستصبح أكثر تواتراً وشدة مع كل جزء من ارتفاع درجة الاحترار في تموز مع ارتفاع متوسط درجات الحرارة بالفعل على مستوى العالم بما لا يقل عن 1.1 درجة مئوية عن مستويات ما قبل الثورة الصناعية، ارتفعت درجات الحرارة في مناطق من العالم تحت “القباب الحرارية”، وتم الوصول إلى مستويات قياسية من الصين إلى إيطاليا.
ويعكف قادة الأعمال وصناع السياسات الآن على حساب تكلفة الشركات المغلقة وانخفاض الإنتاجية، حيث وجدت دراسة نشرها أكاديميون العام الماضي أن موجات الحر، الناجمة عن تغير المناخ الذي يسببه الإنسان، كلفت الاقتصاد العالمي ما يقدر بنحو 16 تريليون دولار على مدى 21 عاماً من تسعينيات القرن الماضي.
تقول كاثي مديرة «أدريان أرشت» في المجلس الأطلسي: إن الحرارة الشديدة “تدمر نمونا، وتبطيء اقتصاداتنا (…) المدارج تنهار، ومحطات المترو تغلق، والمطاعم تضطر للإغلاق لأن موظفي المطبخ يشعرون بحرارة شديدة”.
لكن من المرجح أن تتصاعد هذه التكاليف في العقود المقبلة مع إعادة الاقتصادات تكييف نفسها لمواسم الذروة التي تشهد درجات حرارة شديدة للغاية، للتخفيف من المخاطر والاضطرابات التي ستحدثها.
يقول دان يورجنسن، وزير المناخ في الدنمارك: “الحرارة الشديدة إحدى العواقب الخطرة للغاية لتغير المناخ. الخبر المأساوي للغاية هو أن هذا الوضع سيزداد سوءاً على الأرجح”.
أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل الحرارة الشديدة تشكل تهديداً اقتصادياً هو أنها تزيد من صعوبة العمل. وتترافق درجات الحرارة المرتفعة مع انخفاض الإنتاجية.
تقول لورا كينت من مؤسسة المهندسين الميكانيكيين، وهي جمعية مهنية أعدت أخيراً تقريراً حول كيفية احتياج الصناعة للتكيف مع الحرارة الشديدة، في الظروف الحارة: عادة ما “يعمل البشر بشكل أبطأ، ونتحمل مزيداً من المخاطر، وتنخفض وظيفتنا المعرفية”.
توقعت دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية، وهي وكالة الأمم المتحدة للعمال، بأنه بحلول 2030 سيضيع ما يعادل أكثر من 2 في المئة من إجمالي ساعات العمل حول العالم كل عام، إما لأن الجو حار جداً لدرجة لا يمكن معها العمل أو بسبب اضطرار العمال للعمل بوتيرة أبطأ.
إن نحو 200 مليون شخص في المدن اليوم معرضون لخطر الحرارة الشديدة، وهو رقم من المتوقع أن ينمو ثمانية أضعاف بحلول 2050، لكن قلة من الدول تصل فيها درجة الحرارة لحدود قصوى تستوجب توقف العمل.
غالباً ما يكون الأشخاص الأشد فقراً والأقل قدرة على التأقلم هم الأكثر تضرراً من درجات الحرارة الشديدة، مع تركز خسائر الإنتاجية في كثير من الأحيان على الوظائف التي تميل الأجور فيها إلى أن تكون أقل من المتوسط.
وفقاً لمنظمة العمل الدولية، فإن العاملين في المواقع المكشوفة – وخاصة أولئك الذين يعملون في الزراعة أو البناء – معرضون بشكل خاص لخطر الموت، والإصابات، والمرض وانخفاض الإنتاجية بسبب التعرض للحرارة. فبين 1992 و2016، توفي 285 عامل بناء في الولايات المتحدة لأسباب تتعلق بالحرارة، أي إن نحو ثلث الوفيات المهنية في البلد كانت بسبب التعرض للحرارة، وفقاً لبحث أكاديمي.
لكن أولئك الذين يعملون داخل المباني معرضون لمخاطر متزايدة مع زيادة تواتر موجات الحر الشديدة، بما في ذلك عمال النسيج في العالم البالغ عددهم 66 مليوناً، الذين في الأغلب يعملون داخل المصانع وورشات العمل من دون تكييف. ويقع كثير من هذه المصانع والورشات في جنوب الكرة الأرضية، حيث تكون درجات الحرارة القصوى أشد وأخطر.
القطاعات المعرضة للخطر
إضافة إلى عواقب الحرارة الشديدة على موظفيها، تجبر الصناعات على إعادة التفكير في مزيد من القضايا الوجودية، مثل مكان وجود شركاتها وكيفية عملها.
تقول ديزي إيفانز، التي تعمل في مجال السياسات في معهد تشارترد للبناء، وهو هيئة مهنية: إن صناعة البناء هي أحد المجالات التي قد تتطلب إعادة ابتكار جذري.
وتقول: “لا تؤثر الظروف المناخية القاسية في أعمال البناء في المواقع فحسب، بل تؤثر أيضاً في المواد”.
إذ يمكن أن يتعرض الفولاذ للاعوجاج في الظروف الحارة، بينما يصبح من الصعب التعامل مع الخرسانة وتتماسك بسرعة أكبر، ما يجعلها أكثر عرضة للتشقق والتأثير في قوتها وتحملها. وهناك أيضاً خطر تلف الخرسانة قبل صبها.
كل هذا يضيف إلى التكاليف الإضافية للقطاع، كما تقول ريس إيفانز: في الأغلب ما تجد الشركات التي تواجه حاجة لإعادة طلب المواد مثل الفولاذ الذي تعرض للاعوجاج أو الالتواء نفسها تتصارع مع الشركات الأخرى التي تحتاج أيضاً إلى إعادة شراء البضائع، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار في هذه العملية.
وتضيف: إن أي تأخير في المشروعات يمكن أن يكون مصحوباً بتكاليف إضافية، بما في ذلك الغرامات المفروضة على تجاوز التاريخ المتفق عليه لإنجاز المشروع.
التصنيع هو قطاع آخر يواجه تغيرات كبيرة. تقول كينت، من جمعية المهندسين الميكانيكيين: إن المصانع والمستودعات “ليست مصممة لدرجات الحرارة التي نراها الآن ونتوقع أن نراها”.
هذا يعني أن المعدات قد لا تعمل بشكل فعال أو تتآكل بسرعة أكبر، ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف التشغيل. وتقول: “تعتمد الأغلبية العظمى من صناعتنا على نوع من عمليات التدفئة أو التبريد. إذا كنت تقوم بالتسخين أو تحتاج إلى التبريد لدرجة حرارة معينة وكانت درجة الحرارة المحيطة أعلى بالفعل، فمن الصعب التغلب على هذا الاختلاف”.
في الوقت نفسه، يمكن أن يتعرض توفر المياه لضغط شديد خلال فترات ارتفاع درجة الحرارة، وهي مشكلة كبيرة للقطاع الصناعي، الذي يحتاج إلى المياه لوظائف التبريد والنقل.
ثم هناك المخاطر التي تهدد البنية التحتية. يقول ديفيد كارلين من مبادرة تمويل البرامج البيئية التابعة للأمم المتحدة: إن الإجهاد الحراري “سيقصر من العمر الافتراضي”. يؤثر ذلك في كل شيء من السكك الحديدية إلى الطرق والمطارات. “ليست لديك أضرار محتملة للبنية التحتية مثل انهيار الجسور فحسب، بل لديك أيضاً حاجة لاستبدال هذه الأشياء بشكل أسرع، ما يؤدي إلى زيادة التكاليف”.
وبالنسبة إلى الزراعة، يمكن أن تؤدي الحرارة الشديدة إلى انخفاض إنتاجية المحاصيل، وتغذية ارتفاع الأسعار وانعدام الأمن الغذائي في هذه العملية. فقد وجدت الأبحاث التي أجرتها شركة أرشت-روك أن الذرة، المحصول الأمريكي الأكثر إنتاجاً على نطاق واسع، تخسر نحو 720 مليون دولار من الإيرادات سنوياً بسبب الحرارة الشديدة، والتي سترتفع إلى مبلغ متوقع قدره 1.7 مليار دولار بحلول 2030.
مع زيادة خطورة العمل في مجموعة من القطاعات، سترتفع تكاليف التأمين. يقول محمد خان، مدير عام التأمين في شركة الاستشارات التابعة لشركة «بي دبليو سي» في المملكة المتحدة: إن تغير المناخ “سيحدد بشكل كبير كيفية اختيار القطاع لإدارة المخاطر واستيعابها”.
ووفقاً لبيانات من شركة إعادة التأمين سويس ري، بلغت الخسائر الناجمة عن الكوارث المرتبطة بالحرارة لشركات التأمين، مثل فشل المحاصيل بسبب الجفاف أو أضرار الحرائق الهائلة للممتلكات، 46.4 مليار دولار في الأعوام الخمسة حتى 2022، ارتفاعاً من 29.4 مليار دولار في الأعوام الخمسة السابقة لها.
في كاليفورنيا، واحدة من أكثر المناطق تضرراً من حرائق الغابات، تراجعت بعض شركات التأمين الأمريكية الكبرى، فقد أشارت شركة أولستايت إلى الفاتورة المتزايدة من الحرائق الهائلة كأحد الأسباب التي أدت إلى توقفها مؤقتاً عن بيع بوالص التأمين على المنازل الجديدة في كاليفورنيا العام الماضي. وحذرت ستيت فارم، وهي شركة تأمين منازل كبيرة أخرى، من “تزايد التعرض للكوارث بسرعة” عندما فعلت الشيء نفسه في وقت سابق من هذا العام.
وقد أدى ذلك إلى تغذية نقاش متزايد حول القدرة على تحمل تكاليف التأمين الخاصة بالأفراد والشركات مع اشتداد آثار تغير المناخ، مع تزايد عدد الأشخاص الذين يجدون أنفسهم فجأة في شبكات الأمان العامة.
التكيف من أجل التغيير
بعد بضعة أجيال، سيضطر البشر لإيجاد طرق جديدة لتكييف مجتمعاتهم مع ارتفاع درجات الحرارة بشكل متزايد.
إن التعهدات المناخية التي قدمتها الدول تضع العالم على المسار الصحيح لارتفاع درجات الحرارة بين 2.4 و2.6 درجة مئوية بحلول 2100. وهذا يتجاوز بكثير عتبة 1.5 درجة مئوية التي حذر العلماء بعدها من حدوث تغييرات محتملة لا رجعة فيها على الكوكب وعواقب وخيمة على المواطنين.
وبدأت بعض الدول تلاحظ هذه القضية، حيث عيّنت اليونان أول مسؤول حرارة في 2021، بينما قالت إسبانيا في وقت سابق من هذا العام إنها ستحظر العمل في المواقع المكشوفة خلال فترات الحر الشديد.
وبدأت الشركات بإدخال تدابير مثل استخدام “رش الرذاذ” على الحيوانات والموظفين للحفاظ على برودة أجسامهم، وتقوم شركات أخرى بتبديل ساعات العمل، في محاولة لزيادتها في الليل أو خلال الساعات الأولى من الصباح، على الرغم من أن هذا قد يقابل باعتراضات من الحكومات المحلية والسكان
Views: 7