في كل ذكرى سنوية لإخفاء الإمام موسى الصدر درجت العادة أن يكون لرئيس مجلس النواب نبيه بري طرح سياسي نوعي، فالذكرى محطة وطنية بامتياز ولإضفاء فضيلة عليها يتعيّن على رئيس حركة “أمل”، كبرى غرسات صاحب الذكرى، أن يطلق من المبادرات والأفكار ما يستدعي الاهتمام ويجد التفاعل.
عنصر المفاجأة هذه المرة تمثل في ما بادر بري الى الكشف عنه لجهة العرض الثنائي الوجه الداعي الى حوار وطني محدود بسقف زمني (7 أيام) سعياً الى تسوية تبيح استيلاد رئيس توافقي، على أن تتوّج تلك الرحلة الحوارية بجلسات انتخاب مفتوحة في مجلس النواب.
يقر بعض أعضاء فريق عمل الرئيس بري بأن دعوته الجميع الى جلسات حوار وطني تؤسّس لإنهاء الشغور الرئاسي ليست بالمستجدة على الخطاب السياسي المحوري للرئيس بري، فهو كان له قصب السبق في إدراج مصطلح الحوار مقدمة لازمة لا غنى عنها لتأمين انتخاب رئيس جديد في خانة التداول اليومي.
ومن باب التذكير فإن بري دعا الجميع بلا استثناء مرة أولى وثانية الى طاولة الحوار حتى إنه مرة دعا البطريرك الماروني بشارة الراعي الى ترؤس هذه الطاولة، وفي إطلالات عدة بيّن بري الاسباب التي تدفعه الى التمسك بهذه الدعوة مبيناً المزايا التي يجدها فيها والمخاطر التي يمكن أن تتأتى عن رفضها.
ولكن، وفق المصدر عينه، ثمة من بكّر في المجاهرة برفض هذه الدعوة من دون أن يكلف نفسه عناء التبصّر فيها ومحاكمتها بالعمق إذ ظل الاعتراض من باب المكابرة ليس إلا، الى أن أتى حينٌ من الدهر ونذر الرئيس بري صوماً عن الكلام المباح في هذا الشأن بعد أن أبلغ من يعنيهم الأمر أنه في حِلّ من دعوته تلك…
ولم يكن هذا الانكفاء ناجماً عن قنوط أو رغبة في الانسحاب وطيّ تلك الدعوة بل كان نوعاً من التحدي المضمر للمعترضين على الدعوة والمشككين في جدواها وفحواها: أن أروني براعتكم وهاتوا بديلكم المثمر.
ومرت الأيام والأسابيع الى أن أوشك الشغور القاتل والمنهك برأي الجميع أن يدخل شهره الحادي عشر، والمعترضون يطلقون موجات التشكيك في تلك الدعوة فهي تارة “لتقطيع الوقت” وتارة وصفة لإمرار انتخاب مرشح الثنائي زعيم تيار المرده سليمان فرنجيه، وطوراً بأنها ستقود الجميع الى طاولة حوار ستكون حتماً بلا نتيجة على غرار تجارب مماثلة سابقة.
وفي مندرجات مضبطة الاتهام التي أعدها المعترضون، المطلوب واحد لا غير: جلسات متتالية لانتخاب الرئيس العتيد، وغير ذلك هو هرطقة دستورية تُدرج في خانة المحرمات دستوراً وشرعاً.
وفي الآونة الأخيرة أضافوا الى هذا “بشرى” بنصر آخر آتٍ لا ريب فيه وهو أن ثمة عقوبات آتية على الرئيس بري وبعدها صاروا يحددون مواعيد متتالية لذلك يصرون عليها رغم خيباتهم المتكررة. والمفارقة أن الرئيس بري كان يرد على الذين ألحّوا عليه بالتصدي لكل هذه الحملات: أن اصبروا فإن موعد الظالمين هو الصبح، أليس الصبح بقريب.
وهكذا أطل بري من أعز مناسبة عليه وعلى جمهوره ومن منبر الصدر ليطلق الرد الذي تجسّد بالعرض المزدوج. وبمعنى آخر، رمى بري قفاز التحدي مجدداً أمام كل الذين غرّهم سكوته وسكون حركته في الآونة الأخيرة. لكن يبقى السؤال: لماذا اختار بري مهلة الأسبوع للحوار قبل التوجّه الى ساحة النجمة لعقد جلسات الانتخاب المفتوحة؟
ترد المصادر عينها بأن رئيس المجلس لا يطلق عرضه جزافاً أو اعتباطاً فهو عرض جامع للشرائط لأنه يمزج بين رغبتي دعاة الحوار ورغبة الداعين الى جلسات مفتوحة لا تفضّ إلا حين انتخاب الرئيس الفائز.
وفي الفلسفة السياسية لهذا العرض، واضح أن بري يخاطب الذين أدمنوا الاعتراض بالقول أن استجيبوا لدعوتي حتى ألبّي طلبكم. وثمة اعتباران شجّعا بري على تحديد مهلة الأسبوع للحوار الأول له رمزية معنوية – دينية ضاربة الجذور والثاني أنه يريد أن يثبت لمناهضيه ومعارضيه أنه ليس في صدد نصب مكمن وتضييع الوقت والاستغراق في جلسات حوار بلا نهاية. أي إنه يريد أن يدخل الطمأنينة الى قلوب الذين ما انفكوا يظهرون الخشية أو يستبطنونها، ويشاء أيضاً أن يزيدهم اطمئناناً عندما توّج تلك الدعوة بالتعهد الصريح بالمضيّ مباشرة الى جلسات الانتخاب المفتوحة التي ستكون خاتمتها السعيدة انتخاب رئيس جديد.
وبمعنى آخر، يقول بري لمن يهمه الأمر: ها قد توصّلت الى صيغة هي عبارة عن دمج بين رأيي فريقين متصارعين يقسمان الرأي العام.
حيال ذلك فإن السؤال الآتي المطروح: هل دقيق الكلام عن أن بري ما أطلق تلك الدعوة الهجينة إلا بعد أن حصل على معطيات خارجية داعمة ومشجعة بل ومطمئنة، خصوصاً أنه كان خلال الفترة الماضية قبلة موفدين ذوي شأن من عواصم شتى؟ واستطراداً، ما وجه العلاقة بين دعوة بري والزيارة الموعودة للمبعوث الرئاسي الفرنسي الخاص للبنان جان إيف لودريان؟
لا تحبّذ المصادر عينها الاستغراق في كلام عن إشارات ومعطيات أخرجت بري منصمته وسكونه الى مربّع المبادرة بإطلاق العرض فلحقت بهذه مناخات تفاؤلية. فبري عندهم هو أول العالمين بأن الموفدين من الخارج يسألون أول ما يسألون عن استعدادات الأطراف الداخلية ومدى جديتها لولوج عتبة حل شامل مفتاحه انتخاب الرئيس.
والرئيس بري بعرضه هذا لا يخفي أنه أراد أن يضع الداخل أمام مسؤولياته ويحضه تالياً على المضيّ قدماً بدل المراوحة في لعبة التهرب. لذا كان عرضه بمثابة الفيصل والفرصة الأخيرة وبمثابة محطة لتكثيف الإرادات وتجميعها.
ولا تنفي المصادر عينها أن إعلان الترحيب العاجل من جانب رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل كان بشرى واعدة بأن ثمة من تلقف الفرصة وهو ما زاد ولا ريب من مساحة التفاؤل لدى عين التينة.
وعن الإحصاء الذي راج أخيراً عن أن عدد مؤيدي دعوة الحوار ارتفع الى 90 نائباً ما يؤمن النصاب المطلوب لالتئام طاولة الحوار، قالت المصادر عينها إنها تؤثر مبدئياً عدم فتح نقاش حول هذا الأمر. لكن الثابت في عين التينة أن كتلاً وازنة ومعها عدد لا يستهان به من المستقلين صار مؤيّداً لدعوة الحوار ما يعني أن هذه الدعوة وجدت حصنها الحصين.
وهل سيدعو بري الى الحوار إن ظلت كتلتا “القوات اللبنانية” والكتائب على موقفهما الرافض؟
تجيب المصادر عينها: التقدير عائد الى الرئيس بري فإذا وجد أن محبّذي الحوار صاروا كتلة وازنة بالقدر الكافي فلن يتأخر عن تحديد موعد انعقاد الحوار وإن ظل البعض على عناده ومكابرته. ففي هذه الحالة يصير بري وفق المصادر نفسها أمام مسؤولية وطنية ودستورية ولا يمكن عندها أن ينتظر ويؤجّل. وبالإجمال، تخلص تلك المصادر الى أن الرئيس بري يستشعر أن أمر انعقاد الحوار صار أقرب الى التحقق من أي وقت مضى.
Views: 21