رقية مبروكة
تعد مسألة إنتاج المصطلحات وتصديرها من أبرز العلامات الدالة على قوة الحضارات أو انحطاطها. فالتاريخ يشهد بحقيقتين تخصان هذه المسألة: أولاهما أن الحضارات القوية تكون أقدر من غيرها على إنتاج المصطلحات وعلى تصديرها، بينما تكون الحضارات الضعيفة أكثر ميلا إلى الاستهلاك وأكثر بعدا عن الإبداع في هذا المجال، وثانيتهما أن الأمم والحضارات تبقى في حالة انحطاط ما دامت خاضعة لسلطة المصطلحات الوافدة وفاقدة للقدرة على إنتاج مصطلحاتها والسعي إلى تصديرها؛ ذلك بأنه لا يمكن المجادلة في أن المصطلحات إنما هي منظومة قيم تحدد هوية هذه الأمم وانتماءها. لهذا السبب لم تكتف الحضارة الغربية الحديثة بالهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على الشعوب، بل عملت على تصدير قيمها ومصطلحاتها وعولمتها وفرضها على هذه الشعوب بأساليب تبدو في كثير من الأحيان أبعد ما تكون عن التلاقح الثقافي وعن التأثير الطبيعي المتبادل بين الثقافات، كالضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية… بل إنها تسعى في أحيان كثيرة إلى إجبار هذه الشعوب على نسيان مصطلحات هي من صميم هويتها الثقافية: وأشير هنا على سبيل التمثيل (لا الحصر) إلى ما تعرضت له كل من الأنظمة والشعوب العربية والإسلامية من ضغوط ظاهرة وخفية من أجل تخليها عن مصطلح الجهاد أولاً ومحوه من مجال التداول الرسمي والإعلامي، وتبني مصطلح الإرهاب ثانيا، باعتباره مصطلحا بديلا يحل محل الأول في هذا المجال، قصد إحلاله محله في مستوى الاعتقاد والتداول الشعبيين.
ولعل من أكثر المصطلحات التي لها علاقة بهذه القضية: مصطلح الحداثة.
وإذا كان تثبيت هذا المصطلح والترويج له داخل الساحة الثقافية العربية والإسلامية لم يتوسلا بنوع الضغوط التي استُعملت لتثبيت غيره من المصطلحات، فإن دعاته في العالمين العربي والإسلامي قد لجأوا إلى أساليب لا تقل تأثيرا عن هذه الضغوط، وعلى رأسها لجوؤهم إلى ما هو أشبه بالمنطق الأمريكي في تقسيم العالم: (من ليس معنا فهو ضدنا). فالناس عند الحداثيين العرب أحد صنفين لا ثالث لهما: (حداثي مستنير أو رجعي جاهل)(1).
لهذا السبب، وبسبب ما يحيط بهذا المصطلح من فوضى ومن غموض – لا يقل عن غموض غيره من المصطلحات ذات المنشأ الغربي التي يتم تداولها في أيامنا هذه داخل الساحة الثقافية العربية والإسلامية- جعله في أحيان كثيرة أداة للدعاية أو لفرض نموذج حضاري أو ثقافي رغم أنف الشعوب
Views: 34