- ديما الخطيب
قامة سورية عالية، وبصمة كبيرة لعيون ربما لم نرها يوماً، لكننا رأينا من خلالها الفرح والمحبة والجمال واللعب والألوان، وشعرنا بدفء الشمس وبرد الثلج، وسُقينا حبَّ العائلة، واجتاحتنا مشاعر الوفاء لـفلسطين فسكنت قلوبنا للأبد، كما هزّتنا مشاعر العشق للوطن وللعلم بألوانه الربيعية، وتعلّمنا قيم التعاون والإيثار والتضحية والعمل الجماعي، ورافقنا «باسم ورباب ومازن وميسون» طوال سنوات دراستنا الابتدائية، لتتضافر رسومات فنان الطفولة «ممتاز البحرة» مع كلمات شاعر الأطفال «سليمان العيسى» وتخرج كقوس قزح من قلب وروح كل طفل عاصر هذا الإبداع والجمال، فكانت رسوماته خيولنا الجامحة نحو آفاق الخيال، وحافزاً لنا للدراسة والنجاح والإبداع والتفوق، وتعشقت شخصياته كجذور الأشجار في ذاكرتنا، تكبر معنا يوماً بيوم، حتى باتت رسمة واحدة من رسوماته، تجعلنا اليوم نغصّ بالشوق والحنين لأيام الدراسة.
التكريم الذي جاء متأخراً في المركز الثقافي العربي، استجابت له وزارة الثقافة وأقامت معرضاً وندوة بالتعاون مع مجلة «أسامة»، وبمشاركة عدّة فنانين تشكيليين لهم حضورهم في الساحة الفنية.
المعرض ضمَّ أرشيفاً لبعض أعمال ورسومات البحرة، تضمن أيضاً أعمالاً فنية تشكيلية وخزفية ونحتية لعدّة فنانين سوريين، نذكر منهم لجينة الأصيل، موفق مخول، أديب مخزوم، علي الكفري، غازي عانا، نضال خليل، بشير بشير، أنور الرحبي، صريحة شاهين، سائد سلوم، رباب أحمد.. وآخرين. تناولت اللوحات المشاركة في جزء منها شخصية الفنان الكبير، وتأثيره الجميل في طفولتنا، بينما حملت لوحات أخرى رسوماً لكتب ومجلات خاصة بالأطفال، أما بقية الأعمال فكانت عامة، وتناولت مواضيع إنسانية وجمالية وتصويرية ووجودية.
المعرض تلاه تكريم لعرّاب «أسامة»، واقتصر – للأسف- على شهادة تقدير من وزارة الثقافة، وباقة ورد! شهادةً لا يمكن أن تكون كافية لتقدير سنواتٍ من العطاء، وجهودٍ جبارة وعظيمة لأصابع مبدعة وصادقة ورشيقة، كأصابع البحرة، رافقت طفولتنا وستبقى تختبئ في قلوبنا ما حيينا، وما إن نلمحها حتى تطير في ذاكرتنا كالفراشات. «انطلاقاً من محبتي لطفولتي»، بذلك أجاب ممتاز البحرة عن سبب اختياره لفن الرسم للأطفال من دون غيره من الفنون، في الوقت الذي كان نظراؤه يخجلون من العمل فيه، ويتابع «جدتي هي من لوّن طفولتي وحوّلها إلى طفولة سعيدة ومميزة بحكايتها الرائعة، الأمر الذي أوقعني في حب الرسم للأطفال»، عن أهمية هذا الفن يقول البحرة: «فنّ الأطفال شديد الأهمية لأنه يشارك في تربية الأجيال القادمة التي ستبني الوطن على أسس صحيحة ومتينة، تربية تقوم على المحبة والتسامح والتصالح مع الذات والثقة بالنفس».
الفنان البحرة هو من شخّص الأدب إلى رسوم ناطقة، تاركاً بصمة جميلة وأبدية في ذهن أجيال من السوريين، مستخدماً أسلوب الصدق والاحترام والحب، إذ كان يطبع شخصية «أسامة» بشخصيته، حسبما ترى الفنانة لجينة الأصيل «فرغم العدد الكبير من الفنانين الذين شاركوا «أسامة» حياتها أمثال الفنانين نذير نبعة، نعيم إسماعيل، غسان سباعي، أسعد عرابي، خزيمة علواني، أسماء فيّومي وآخرين، لكن أحداً منهم لم يترك البصمة التي تركها البحرة في «أسامة» لأنه كان عاشقاً لعمله مخلصاً له، صادقاً في توظيف موهبته لتشخيص أي حدث بطريقة مبسّطة ومفرحة، كيوميات «أسامة في الأراضي المحتلة» فنجح البحرة بزرع الأفكار الإيجابية عن طريق المرح في عقل الطفل، وكان بارعاً في إيصال التسلية والمتعة المعشقة بالقيم التربوية والسلوكية إلى الأطفال».
الفنان والناقد التشكيلي أديب مخزوم شارك بدوره في المعرض بنماذج من أرشيفه الخاص لأغلفة مجلة «أسامة» وأغلفة بعض القصص المرسومة بيد الفنان البحرة، كما شارك بلوحة تشكيلية رسمها خصيصاً لهذه المناسبة، تحمل عنوان «تحية إلى الفنان ممتاز البحرة» تسبح فيها الزوارق الورقية والطائرة الورقية المرتبطة بوجه ممتاز البحرة في مخيلة الرسام، مازجةً زرقة البحر بزرقة السماء وألوان الفرح، مؤكداً ارتباط مخيلته الوثيق مذ كان طفلاً بإبداعات هذا الفنان الكبير. أهم ما يميز تجربة ممتاز البحرة أنها شديدة الالتصاق بذاته وشخصيته، حسب مخزوم الذي يشيد ببصمته الخاصة، التي لم تتأثر بالتيارات الغربية «لقد حافظ البحرة – خلافاً لغيره- على أسلوبه الخاص، فقد كان يتمتع بموهبة فذة ونادرة، بل إنه أثّر بجيل كامل من فناني رسوم كتب ومجلات الأطفال في سورية»، مشيراً إلى أن الرسوم التوضيحية التي ترافق كتب الأطفال المدرسية في المناهج الحالية، شكّلت هبوطاً قاسياً مقارنةً برسومات البحرة، وتمنى مخزوم من المسؤولين عن مناهج الأطفال المدرسية، اختيار الأفضل لا الأسوأ من فناني هذا الجيل.
الفنان علي الكفري كان مدير تحرير وإخراج مجلة «الطليعي» التي كان الفنان البحرة يرسم لها أيضاً، وأشاد بتجربته الإنسانية والفنية: «ترك البحرة للأجيال كنزاً من القيم الأخلاقية والإنسانية والوطنية والحضارية، فكل رسمة تعادل مئة كلمة، وبذلك ساهم البحرة في تثبيت الدروس الفكرية والتربوية في أذهان أطفالنا» مشيداً ببساطة رسومه التي تمتلك عنصر الإدهاش في الوقت ذاته، ما يترك التأثير المطلوب في أذهان الأطفال على المدى البعيد. الكفري شارك في المعرض بلوحة تشكيلية تتحدث عن كبرياء المرأة وقدسية وحدتها مطلقاً عليها اسم «الوحدة عبادة».
رئيسة تحرير مجلة «أسامة» السابقة ريم محمود، كانت أول من دعا إلى فكرة تكريم الفنان البحرة زمن الوزارة السابقة، إلا أنها للأسف لم تلق آذاناً مصغية، تقول محمود: «ممتاز البحرة يكاد يكون التجربة الوحيدة كمدرسة فريدة وقائمة بحد ذاتها لرسوم الأطفال الموجودة في سورية، فنحن للأسف لم نؤسس منهجاً حقيقياً لهذا الفن، ولا أضفناه إلى الدراسة الفنية الأكاديمية، ولم نقم مدرسة سورية خاصة برسوم الأطفال، فكان ممتاز البحرة هو أول من رسم رسوماً توضيحية تشبه بيئتنا وملامحنا، وأقام مدرسة خاصة به، لكننا للأسف لم نعرف أن نتبناها كمؤسسة أو نطورها، وللأسف أيضاً لم نعرف كيف نكرّم هذا الحامل العظيم الذي ترك لنا هذه البصمة المميزة، التي أثرت بكل فنان سوري، وعلمته معنى الرسم التوضيحي والتبسيطي، ومعنى فن التحريك، فهو الرائد، وهو المؤسس، ونحن لم نكمل المسيرة»، مؤكدةً أن عالم الأطفال هام جداً، ويجب أن نتعلم كيف ندخله ونؤثر في أذهان وقلوب الأطفال بطريقة ذكية: «الطفل يكره كل ما هو فرض وإجباري، وأفضل طريقة لتعليمه هي باللعب وبالرسم وبالألوان وبالفرح، فللرسم أهمية عظيمة في طباعة القصيدة بذهن الطفل الذي يربطها بالرسمة المجاورة لها، والطفولة المبكرة هي الأصعب، لأننا لا نستطيع تعليم أطفالنا إلا عبر الرسوم التي تعتمد عليها كل كتب الأطفال».
تصوير: طارق الحسنية
Views: 1