كشف لنا أعمال التنقيب الأثري في أوغاريت خلال السنوات الماضية عن عطاءات هذه المملكة العظيمة المبدعة في إنجازاتها وثورة في عالم أبجديتها ودساتيرها وملاحمها وأساطيرها وآدابها..
وإن قراءة نصوص أوغاريت التي تحتوي على معلومات غزيرة عن العبادات والأساطير والطقوس التي شاعت في سورية منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة عام فتحت أعين الباحثين في تاريخ الأديان القديمة على دراسة نصوصها المكتشفة التي تنوعت بمحتواها ووسعت معلومتنا عن الديانات الشرقية القديمة وشكلت تراثاً إنسانياً ضخماً لا يقدر بثمن.
وإن الطقوس الجنائزية التي كانت قائمة في أوغاريت تكمن وظيفتها في تمجيد الأسلاف والاحتفاظ بالصلات الوثيقة معهم هذه الطقوس كانت تجرى بطريقتين متميزتين عن بعضهما بعضاً الأولى عرضية لحظة تكفين والثانية دورية كشفها نص فخاري أوغاريتي ينظّم سيره مدوّن عليه طقس لجنازة ملك أوغاريت عميشتمرو الثالث المتوفي بحدود 1200 قبل الميلاد.. قبيل دمار أوغاريت.
إن النص المكتشف خلال أعمال تنقيب بيت ((أورتينو)) الذي يقع منزله جنوب تل رأس الشمرة بالقرب من القصر الملكي.. والنص من خلال قراءته يفسّر المالك الذي وهب اسمه للبيت الذي كان في خدمة الأسرة الملكية في أوغاريت وإن تنظيم مأتم الملك المتوفى قد عهد إليه.
ومن خلال النص نتعرّف أكثر على بعض التفاصيل عن الطقس الجنائزي لشخصية ملكية في حين أن تفاصيل طقوس الموت الدورية ما زالت غير معروفة حالياً .. وبحسب هذا النص فإن أرواح الموتى (رفائيم بالأوغاريتية) مدعوّة إلى الطقس مبتدئين بالملك الأكثر قدماً ثم تدعى السلالة الملكية بدءاً من (ديدانو) وهو مؤسّس السلالة الملكية.
بحسب الإيديولوجية الأوغاريتية مروراً بملكين مشهورين في الفترات الحديثة عميشتمرو الأول ونقماد الثاني (وهما عاشا في فترة لـ 1400 ق.م).
يبدأ الطقس الجنائزي بالنواح الرسمي على الملك المتوفى حديثاً بحضور أسلافه ثم يبدأ الدفن.. هذا النص الشعري مدوّن بلغة الآلهة لأن الأسلاف الملكيين في العقيدة الأوغاريتية ينتمون إلى الفلك الإلهي والإلهة (شبش) آلهة الشمس والعدل والنور، هي الوحيدة التي يسمح لها بالمرور بالتعرّف على مقام الأموات وكذلك الأحياء.. وقد تم الإصرار على مشاركتها في الطقس مع الأمر بنزول الملك المتوفى إلى الأرض.
إن هذا العبور ينجز طقسياً وذلك بإنزال الجثمان في الأرض نزولاً يكرّر سبع مرات ترافقه تقدمة الأضاحي.
إنه لأمر غريب فعلى الملك المتوفى أن ينزل في كل مرة تحت أسلافه ممّا يسمح بالاعتقاد بأن رعاة الطقس يضعون الجثمان سبع مرات في البئر العميق.. الذي يزور أوغاريت وتحديداً القصر الملكي المقبرة الخاصة بالعائلة الملكية يرى البئر المذكور بالطقس وهو واقع بين القبور الملكية.
وهكذا يتم إدخال الملك المتوفى إلى أحشاء الأرض حيث ينضم إلى أجداده ويختتم الطقس الجنائزي بأضحية من الطيور بهدف الحصول على الهناء من أجل إقامة الملك المتوفى في العالم الآخر.. ومن أجل من سيأخذ مكانه على العرش من أجل عائلته ومن أجل مدينة أوغاريت.
وفيما يلي نذكر ما ورد في الطقس الجنائزي المدوّن على النص الأوغاريتي المكتشف يقول:
أنتم مدعوون يا روفائيم الأرض
انتم مدعون يا مجمع ديدان
رفاؤوما مدعو
لقد نادوا الرفاؤوما القدماء
انتم مدعوون يا مجمع ديدان
الملك عميشتمرو مدعو أيضاً
يا عرش نقماد.. ولِيَبك عليك
ولتذرف الدموع على درجاتك
امامه لِيَبكَ على مائدة الملك
ولتبتلع الدموع!
بؤس وبؤس البؤس:
كوني حارقة يا شبش..
نعم كوني حارقة يا أيتها النور
العظيمة
في الأعلى يا شبش عليك أن تصرخي
على إثر أسيادك انزل في الأرض
انزل في الأرض واغطس في التراب!
تحت الرفاؤوما القدماء..
تحت الملك عميشتمرو
مثلما تحت الملك نقمادو
واتتم أضحيتك /تقال مرة واحدة/
واتتم أضحيتك /مرتين/
واتتم أضحيتك /ثلاث مرات/
واتتم أضحيتك /أربع مرات/
واتتم أضحيتك /خمس مرات/
واتتم أضحيتك /ست مرات/
واتتم أضحيتك /سبع مرات/
سنقدّم طيوراً كأضحية للهناء
هناء عمورابي وهناء بيته
هناء اوغاريت
هناء أبوابها.. (انتهى الطقس الجنائزي)
واخيراً نقول: بأن أوغاريت ما زالت تعيش معنا مع كل فلاح يزرع أرضه وينتظر المطر ويقول أن أرضه أرض بعل.. أوغاريت التي تعيش في وجداننا.. هي جزء من تاريخنا الطويل وفي آثارها ومكتشفاتها نجد الكثير من جذور حضارتنا السورية العريقة ومن عاداتنا وتقاليدنا وموروثنا الثقافي والفكري والديني.. إنها أوغاريت مبدعة الميثولوجيا التي تثير دهشتنا دائماً بسماع أخبارها..