ليس حدثاً فنياً عارضاً أو موسمياً بقدر ما هو تصويب ثقافيّ للانجراف الذي روّج له مثقّفون و«مفكّرون» ودعاة مجتمع مدنيّ فضح الخريف العربي زيف ادّعاءاتهم وكذبهم كما أنه ليس استعراضاً فئوياً تنسرّ له أمراض اجتماعية في بهجتها لعودة لهجة اختبأت وتخفّت نتيجة لاجتياحات لهجات أخرى عبّرت عن زيفها وتخلّفها وعمالتها وكشفت عن وجهها الحقيقيّ في سنوات الحرب التي تعيشها سورية وإنما هو فعل نجاة واقعيّ يتمثّل في إعادة الاعتبار إلى تلك الفئة الحالمة من السوريين،
ومن الشباب تحديداً، التي تبني صروحاً من الآمال على اقتحام محرّمات كثيرة، يقع على رأسها محرّم المدينة الفعلية التي يتشابك فيها تعقيدها ليرتفع سداً عالياً أمام بساطات تبدو للآخرين سهلة وقريبة المنال. ما يفعله المهند كلثوم في «توتّر عالي» هو قسرية العودة إلى المشاركة المدينية الفاعلة في صناعة نواة مدنية، وإن تبدّت حيادية في سلبية فعلها نهاية الفيلم؛ وما اختيار اللهجة التي يتحدّث بها بطلا الفيلم إلا تصويب ثقافي فعليّ لمعنى المدنية التي شوّهها كتاب سوريون كثر كان لهم الحظوة والصدارة في المنابر الثقافية الحكومية والخاصة، والذين دبّجوا آلاف الصفحات عن غزاة الريف وتخريبهم لمجتمع المدينة الذي شوّه هؤلاء الغزاة عاداته وتقاليده الفلكلورية البائسة التي حلم بالعودة إليها زبد ثقافي سقط في أولى المعارك الجدّيّة، وإن كان قسم كبير منه يتخفّى في طاقية الإخفاء السحرية للبعث في فيلمه «توتّر عالي» يقوم المهنّد كلثوم بثورة مضادّة صعبة، المطر الكثيف الذي رافق المشاهد كلّها، يعيد فيها صياغة، وإن حزينة ومؤلمة، لمعنى الحياة الواحدة، وذلك من خلال تماهي الفهم بين رجل المدينة، الحانوتي العجوز، وبين الشاب الريفي المندفع لتغيير واقع الحال، من هامشي إلى أساسي فاعل ومنتج وصانع للحدث. لكن ركيزتي ثورته، بطلا الفيلم، يخرجان في النهاية في مشهد مأساوي قاتل، يقول في الوقت نفسه إن الحلم في التغيير واجب وإن أدّى إلى الموت. فموت البطل الذي يضع نفسه وحبيبته في جوّ أنهما قادران على طبخ الرز والفاصولياء كحلم، والذي يختلف معها في تطبيق الحلم باختراق ذلك العالم المسوّر، لا يعني انتهاء الحلم بقدر ما يعني القتال دونه، حتى وإن أدّى ذلك القتال إلى موت محقق ورغم الإشارات اليومية التي يدخلها كلثوم في الفيلم من معاناة حول قطع الكهرباء وغيرها، إلا أنه يبدو من الواضح أن النظر إلى الأعلى الذي يمارسه مع كاتب السيناريو سامر محمد إسماعيل هو غاية تلك الصور المتلاحقة المعبّأة بتلك اللغة البسيطة المتحدّية التي أعاد لها سامر الاعتبار وأخذها المهنّد من يدها ليدلّها إلى طريقها الصحيح في أماكن معتمة وصعبة التضاريس فيلم «توتّر عالي»، على قصره، هو بشارة ولادة روائية سينمائية لا تحكي زمن الحرب أو تحاكيه من نوافذه السطحية، وإنما هو تمرين عملي حادّ وصادم على كشف الجذور وتحدّي الوصول إلى الأعالي للخروج أو الخلاص النهائي.
Views: 8