الصين تعلن عن تمكنها عملياً من السيطرة على انتشار وباء كورونا في مركز انتشار الوباء الأساسي؛ مقاطعة هوباي، هنا يبرز الدور الكبير لتكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي اللذين استعانت بهما الصين لاحتواء المرض.
فرضت الصين نفسها لاعباً أساسياً على الساحة الاقتصاديّة العالمية، لكن مع انتشار فيروس كورونا المستجد، برزت كدولة معلومات، تمتلك شبكات وأنظمة متطورة ومعقّدة، ونجحت في اختبار الاقتصاد الرقمي لاعتمادها على البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، بعد أن صرحت عام 2017 عن نيتها بأن تصبح الدولة الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول 2030.
هنا نستعرض أبرز أسباب نجاح الصين على الصعيدين التكنولوجي والاجتماعي في احتواء انتشار الوباء.
1-إيمان الدولة بالتكنولوجيا وتحليل البيانات:
في أجواء المرض والخوف التي عمّت المدن الصينيّة، اعتمدت الدولة تقنية تحليل البيانات، كأداة أولى للخروج من مستنقع الوباء. نعلم أن الصين تطوّر أساساً منظومة خاصة من برامج الرصد لتساعدها على اتخاذ القرارات والوصول إلى الإحداثيات بشكل سريع.
في تجارب سابقة، شاهدنا كيف تمّ توظيف البيانات الضخمة في عمليات احتواء الأمراض والحد من انتشارها، كالتطبيقات المستخدمة في سيراليون لمحاصرة “إيبولا” مثل خرائط flowminder.
الحدث الكبير اليوم هو عملية استخدام هذه التقنيات في مساحة جغرافية شاسعة وتعداد سكاني كبير (أكثر من 1.35 مليار نسمة)، خلال فترة زمنيّة قياسيّة، وفي ظل تهديد صحي طال المجتمع الصيني بأكمله. طبعاً إلى جانب الوضع النفسي الناجم عن الحرب الإعلامية والدعائية التي لم يسلم منها أحد.
المفارقة أيضاً أننا اعتدنا على التعاطي مع التكنولوجيا بطريقة ردة الفعل، حيث نبحث عن مساعدة تقنية عندما تحدث المشكلة، ولكن الحل يكمن باستخدام التكنولوجيا بطريقة استباقية. في ظل تفشي المرض في الصين، اعتمدت الحكومة الصينية على تطوير مستمر لخوارزميات “تطبيق” مجاني يقدم للناس بهدف جمع بياناتهم وتحليلها، من أجل تصنيف الوضع الصحي حول احتمال إصابتهم بالمرض.
هذا التطبيق الذي طورته شركة Ant financials، التابعة للعملاق الصيني Alibaba، قادر على التنبؤ بالحالات بشكل دقيق وتلقائي، ويستند إلى مجموعة كبيرة من البيانات، مثل تاريخ السفر، والاحتكاك بالمصابين، إضافة إلى التحركات الجغرافية وبيانات الشراء الالكتروني خاصة لمواد طبية.
بعد جمع هذه البيانات ومقارنتها بالحالات الموجودة، يظهر اللون الأخضر إذا كان خطر الإصابة بعيداً، واللون الأصفر إذا كان الاحتمال موجوداً، واللون الأحمر إذا ما احتاج الإنسان للحجر.
2-الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بدل الإنسان:
الإنسان صنع الآلة، برمجها وطوّرها. لا نتنكر هنا لضرورة الاستفادة من العنصر البشري للتحقق من سير العمل وإعادة ترتيب الأولويات، إنّما في حالات تفشي المرض، وعندما يكون الإنسان هو السبب الرئيسي في نقل الوباء من شخص/مكان إلى آخر، فالأولوية تكون التخفيف من الاعتماد على الإنسان، والحد من الاحتكاك مع البشر، وبالتالي استبدال النشاط الإنساني بخطوات تقنيّة، كالروبوتات التي كانت توزع الطعام على المحجورين في الفنادق أو تقوم بتعقيم الشوارع وحتى تنقل المعدات الطبية.
في الصين، يعتمد الناس بشكل كبير على وسائل النقل المشترك والتي بدورها قد تكون من العوامل المسهلة لنشر الفيروس مع وجود أكثر من 5500 محطة سكة حديد للركاب.
أيضاً في الصين، يحتاج المستخدم لأوراقه الثبوتيّة لكي يستفيد من أي خدمة إلكترونية أو بطاقة للنقل المشترك أو الانترنت. بدلاً من إلغاء حركة النقل المشترك وتعطيل مرافق الحياة اليوميّة، تمّ استبدال الموظفين بكاميرات ضوئية حرارية للتحقق من سلامة الركاب في محطات النقل، بحيث تقوم الأجهزة باستشعار درجات الحرارة لتنذر حول أي مريض عبر الرقم الظاهر على الشاشة بجانب صورته.
وبمجرد الحصول على أيّ نتيجة تؤكد الإصابة، يتمّ فحص الركاب الذين تواجدوا مع المصاب وكذلك يتم إنذارهم بأنهم تعرضوا لأحد المصابين، علماً أن تطبيق التصنيف الوقائي يتحدث بشكل تلقائي.
في هذا الشأن، قامت الشركات المتخصصة بالذكاء الاصطناعي بمساعدة الدولة عبر تقديم برمجيات مساعدة، تحلل تعابير الوجه وحركة الجسد، لتكوّن عملية تشخيص دقيقة أكثر.
هنا تجدر الإشارة إلى أنّ دقة التشخيص تعتمد بشكل كبير على البيانات التي تمّ جمعها سابقاً عبر آلاف الكاميرات التي نستطيع رصدها في كل أنحاء الصين والتي تمت برمجتها على تقنيات التعرف التلقائي على الوجوه.
3-الرصد الدقيق للإحداثيات الجغرافية وبيانات الإشارة:
عندما تطلب السلطات من أشخاص محددين عزل أنفسهم، فالموضوع حساس ودقيق. هذا يتطلب التزاماً حقيقياً للحد من انتشار الفيروس عند التجوّل، ولكن في عدد من البلدان سمعنا أن أشخاصاً هربوا من الحجر الصحي.
في الصين، الهرب قد يبدو مستحيلاً، إذ يتمّ رصد الإحداثيات الجغرافية لكل شخص طلب منه الالتزام بالحجر الصحي. هذه البرمجيات ترسل إنذارات بشكل سريع وتلقائي عند الإبلاغ عن أي خرق للعزل وذلك لمنع الأشخاص من التجوّل. تسهّل الكاميرات المنتشرة في كل مكان، والتي تستطيع تحديد هوية الأشخاص، تنفيذ العمليّة.
من جهة أخرى، ترصد هذه البرمجيات أيضاً الاحتكاك بين الأشخاص لإبلاغ أي مواطن حول إصابة صديق أو قريب قد سبق واحتك به عبر رسومات حرارية. فشركة Baidu مثلاً زودت الحكومة الصينية بخريطة مجانية يلجأ لها المتجولون في إطار سعيهم لتجنب الأماكن المكتظة بالمرضى.
في المقابل، زودت شركات الاتصالات الحكومة الصينيّة ببيانات الإشارة والتي تساعد على فهم سلوكيّات وتصرفات المواطنين لتحديد تحركاتهم وأماكن تواجدهم، إضافة إلى من يرافقهم.
وبالتالي، تلعب معلومات الإشارة دوراً أساسياً لجهة التحقق من البيانات التي يتم نشرها لمطابقتها، قبل الاعتماد عليها في التحليل.
4-ثقافة الشعب الصيني لجهة تقبل التكنولوجيا المتجددة:
يجزم علماء تحليل البيانات أنّ ثقافة التغيير وعدم تقبل الموظفين لهذه الثقافة، هي العوامل الأخطر والأصعب للمضي قدماً في تنفيذ المشاريع التي تعتمد على الابتكار.
هذا التحدي تواجهه أيضاً كافة الدول والبلديات التي تسعى إلى تقديم الخدمات بشكل أحدث وأكثر سهولة. أمّا في الصين، فيبدو أن الناس قد اعتادوا على إدخال عناصر مبتكرة بشكل تلقائي وسريع. هناك قدرة عالية على التكيّف مع التقنيات الجديدة والتعامل معها بغض النظر عن عمر وخلفية المواطنين.
كما يتمّ تقديم التقنيات المتطورة بشكل متساوٍ في المناطق ولكل طبقات المجتمع باختلافها، فلا تحتكر أي طبقة معينة القدرة على الوصول إلى التكنولوجيا.
خطوات ممتازة.. ولكن؟
إنّ الاعتماد اليومي على التطبيقات المتصلة بالإنترنت أدى إلى إنتاج كميّات ضخمة من البيانات التي يمكن قياسها وتحليلها (quantifiable data)، مثل عادات البحث أو السلوك اليومي على المواقع والمنصات.
عادةً، هذه البيانات تهتم بها شركات التسويق التي تُعنى بتقديم إعلانات موجهة وهادفة لتحقيق نسبة أعلى من المبيعات، ولذلك جزء منها اختياري، أي يسمح للمتلقي بإلغاء ما لا يرغب برؤيته.
في حالة الصين، جمع البيانات من السلطات على اختلافها وتنوعها، يطوّر منظومة الرصد ويسمح باحتواء المرض، لأن عملية مشاركتها مع السلطات تكون إلزاميّة.
إذا حجبنا بياناتنا الشخصية عن هذه التطبيقات أو المواقع، سيعطل ذلك نشاطنا اليوميّ. عندما يقوم المريض مثلاً بشراء أدوية معينة، فعلى السلطات فهم السبب لاحتواء أي خطر إضافي. الدولة تطلب بيانات أكثر للمساعدة، لكن امتلاكها يطرح العديد من التساؤلات. ماذا ستفعل الدولة بكل هذه البيانات بعد القضاء على الفيروس، وما الذي ستفعله إذا قامت جهة ما بسرقتها؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير لا تبدو سبباً حتى اليوم في اعتراض الناس عليها، فالواضح أن مقاومة هذه التطبيقات تتدنى مع تعاطف الناس تجاه الوضع الإنساني والحالات المرضية. هذا كله يجعل الفرد أكثر استعداداً للتضحية بالخصوصية مقابل السلامة العامة.
بطبيعة الحال، هنالك العديد من الإجراءات التي يمكن أن تتبناها السلطات الصينية لتخفيف القلق العام بخصوص البيانات. نتحدث عن إجراءات وقوانين لتعزيز الشفافية منذ لحظة جمع البيانات، وطرق الاستفادة منها وتنظيم الآليات المرتبطة بها.
هنا يبرز دور كبير للمؤسسات الحقوقية التي تتمركز في العاصمة الصينية والتي تركز اليوم على البيانات الطبية مثل البصمات، باعتبار أن حماية الخصوصية الفردية نصت عليها القوانين المدنية والجزائية مسبقاً.
الميادين
Views: 1