بمغادرة أفغانستان، وعقد اتفاقية “أوكوس” الأمنية بين أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا في المحيطين الهادئ والهندي، أفسح الرئيس الأميركي جو بايدن الطريق من أجل التركيز على التحدي الكبير للسياسة الخارجية، وهذا التحدي هو التنافس المنهجي مع الصين. ومع ذلك، فإن القلق الآن يتمثَّل في مدى السرعة التي يمكن أن يتصاعد بها هذا التنافس، خاصةً في تايوان كما تقول صحيفة The Guardian البريطانية.
الصراع على تايوان.. لماذا؟
تُعتَبَر تايوان، محور نظام التحالف الأميركي في جنوب شرق آسيا، أكبر جزيرةٍ في “سلسلة الجزر الأولى”، وهي مجموعة الجزر الملتفَّة حول الصين. إنها الهدف التالي للصين، وكما أشارت رئيس الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي، فإن ما مِن أحدٍ يعرف تماماً ما إذا كان الغرب مستعداً للقتال لإنقاذ تايوان أو ما إذا كان الاتفاق الثلاثي الجديد يضع التزاماً جديداً بطريقةٍ ما على المملكة المتحدة للدفاع عن البلاد.
فسَّرَت المنافذ الإعلامية الصينية، والمؤرّخون المتحمِّسون لنهاية الإمبراطورية الأميركية، انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان من منظور مطالبة بكين بتايوان. وقالت صحيفة The Global Times الصينية إن أفغانستان أظهرت أنه في حالة نشوب حربٍ في المضيق، فإن دفاع تايوان “سينهار في غضون ساعات، ولن يأتي الجيش الأميركي للمساعدة”، وأضافت أن الولايات المتحدة أظهرت أنها لا تملك الجرأة للقتال.
“الصدام الأميركي الصيني قادم”
لطالما اتَّسَمَت السياسة الأميركية على مدار 40 عاماً بالغموض الاستراتيجي الذي لا تفسِّره إجاباتٌ حول ما ستفعله الولايات المتحدة في حالة حدوث غزو. تتدفَّق التوقُّعات التي تتنبَّأ بالصراع مع الصين منذ عقود. ولقد حذَّرَ ريتشارد بيرنشتاين وروس مونرو من الصراع القادم مع الصين في أوائل العام 1997.
ومنذ ذلك الحين، أُريقَ الكثير من الحبر في الكتابة حول هذا الموضوع، بما في ذلك إعداد خريطة لكيفية حدوث الغزو ساعة بساعة. وكتب جان بيير كابيستان، مؤلِّف كتاب “الصين غداً: حرب أم سلام؟”، عن غزوٍ مُحتَمَلٍ لتايوان منذ ما يقرب من عقدين من الزمان.
ينتاب كابيستان قلقٌ من أن تصل الأمور إلى نقطة تحوُّل، إذ كتب: “يصبح مشروع بكين أوضح كلَّ يوم- لتصبح القوة الرائدة في العالم؛ وبالتالي تخلع واشنطن من قاعدتها وتهيمن على شرق آسيا، وتطرد أميركا من غرب المحيط الهادئ”. وأضاف: “يستعد جيش التحرير الصيني أكثر قليلاً يوماً بعد آخر لنزاعٍ مُسلَّحٍ مع تايوان”.
يشير رئيس الوزراء الأسترالي السابق كيفين رود إلى أنه مع وجود هونغ كونغ في قبضة بكين، فإن الصين تعتبر تايوان مهمةً لم تكتمل بعد. قال رود مؤخَّراً على محطة CNBC: “أعتقد أن ما سننتقل إليه بعد ذلك هو الفترة التي ستنظر فيها الصين في خياراتها من أجل الاستفادة من تايوان مرةً أخرى في شكل اتحادٍ سياسي مع الصين، في أواخر 2020 وحتى عام 2030. وهذا هو الوقت الذي سيصبح فيه الأمر خطراً علينا جميعاً”.
“غزو الصين لتايوان سيكون كارثياً”
في مواجهةٍ بين المسؤولين الصينيين والأميركيين في ألاسكا، في مارس/آذار، أُصيبَ مسؤولو البيت الأبيض بالدهشة من قوة المحاضرة التي ألقاها كبير مساعدي الرئيس الصيني للسياسة الخارجية، يانغ جيتشي.
بعد فترةٍ وجيزة، تفقَّد شي جين بينغ مقاطعة فوجيان عبر المضيق من تايوان. وفي يونيو/حزيران، تبع يانغ ذلك بدعوةٍ إلى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، قائلاً له: “إن مسألة تايوان تتعلَّق بسيادة الصين وسلامة أراضيها، وتنطوي على مصلحة أساسية للصين. لا يوجد سوى صين واحدة في العالم، وتايوان جزءٌ لا يتجزَّأ منها”. وكثَّفَت الطائرات الصينية في الأشهر الأخيرة توغُّلاتها في منطقة الدفاع الجوي التايوانية.
وكرَّرَ بلينكن الأسبوع الماضي تشديده على التزام الولايات المتحدة بمساعدة تايوان في الدفاع عن نفسها، إذ سيكون، على حدِّ قوله “من الخطأ الجسيم أن يحاول أيُّ طرفٍ تغيير الوضع الراهن بالقوة”. وقال كورت كامبل، مدير البيت الأبيض في آسيا، إن الغزو سيكون كارثياً.
بدأت تايوان تدرك أنها بحاجةٍ إلى بذل مزيدٍ من الجهد لحماية نفسها. ومن المُقرَّر أن تنفق 8.7 مليار دولار إضافية على الدفاع على مدار السنوات الخمس المقبلة، بما في ذلك الحصول على صواريخ جديدة. يرى تانر غرير، الباحث في شؤون تايوان، أن هذا ضروري، لأن التايوانيين قد تخلوا عن تدريب المجنَّدين منذ فترة، وقيادتهم العسكرية معزولة وعتيقة. ويضيف أنه ما لم تحشد تايوان قواها، فلن تتمكَّن الولايات المتحدة من تقديم ضمان دفاعي. وقد وجد استطلاعٌ لمجلس شيكاغو في أغسطس/آب الماضي أن 46% فقط من الأميركيين يؤيِّدون الالتزام صراحةً بالدفاع عن تايوان إذا غزتها الصين.
ماذا تريد الصين؟
تقول الغارديان: يدور النقاش الرئيسي حول النوايا الحقيقية للصين، والإطار الزمني لهذه النوايا، ومدى عزمها على تأكيد مطالبتها بضمِّ تايوان.
قال ديفيد إدلشتاين، مؤلِّف كتاب “في الأفق: دراسةٌ حول تفاعل القوى الصاعدة والهابطة”: “هناك من يقولون إن الصين لديها نوايا عدوانية وطموحاتٍ عالمية، وتتصرَّف وفقاً لتلك الطموحات، لأن هذا هو ما تفعله القوى العظمى، وكلَّما زادت قوتها، أصبحت أكثر طموحاً”.
وأضاف: “هناك مدرسةٌ فكرية أخرى ترى في هذا معضلةً أمنية كلاسيكية في العلاقات الدولية. تسعى كلٌّ من الولايات المتحدة والصين لتأمين مصالحهما، وتهدِّدان الآخرين خلال ذلك. أما الحجة الثالثة، فيعتقد أصحابها أن الصين مدفوعةٌ بالفعل بالأمن الداخلي. وأكثر ما يهم القيادة الصينية هو أنها تريد عالماً آمناً للاستبداد الصيني، وطالما أنه آمنٌ، فلن يكون لديهم طموحٌ كبير يتجاوز ذلك”.
ويتزايد القلق داخل الدوائر الأميركية بشأن النوايا الصينية. ولم تعُد الأطروحة التي قدَّمها باراك أوباما، والقائلة بأن الولايات المتحدة يمكنها استخدام قوتها لدفع الصين وطمأنتها نحو سلوكٍ أفضل، سائدة.
الصين تسير بخطى ثابتة نحو مركز “القوة العظمى”
يأتي مثالٌ على ذلك من روش دوشي، مدير الشؤون الصينية في مجلس الأمن القومي لإدارة بايدن. قبل أن يتولَّى منصبه، أكمل تحليلاً كان يعمل عليه ونُشِرَ الآن، تحت عنوان “اللعبة الطويلة: استراتيجية الصين الكبرى لاستبدال النظام الأميركي”.
اكتشف دوشي ثلاث استراتيجيات يعتمد كلٌّ منها على تصوُّراتٍ متطوِّرة للتهديد الأميركي. بدأت فترة العشرين عاماً الأولى بنهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وحرج الخليج، وساحة تيانانمين في بكين، وكانت مُخصَّصة لتقليص مصادر القوة الأميركية.
ثم بعد الانهيار المالي في عام 2008، تحوَّلَت بكين، التي كانت واثقةً من أن النموذج الأميركي معيب، إلى بناء أسسٍ لنظامٍ صيني داخل آسيا. اتَّضَحَ ذلك بصورةٍ أفضل من قِبَلِ الرئيس الصيني آنذاك، هو جينتاو، في مؤتمر السفراء الحادي عشر للصين في العام 2009. أعلن جينتاو أنه كان هناك “تغييرٌ كبير في ميزان القوى الدولية”، وأنه يتعيَّن على الصين الآن “إنجاز شيءٍ ما بنشاط”.
ابتعدت الصين عن الألغام والصواريخ، واستثمرت في حاملات الطائرات والمركبات البرمائية. قامت بعسكرة الجزر في بحر الصين الجنوبي، وبدأت في بناء المزيد من السفن البحرية. وعلى المستوى السياسي، حوَّلَت الصين تركيزها بعيداً عن المشاركة في المنظمات الدولية للحدِّ من النفوذ الأميركي. وفي المقابل، دشَّنَت مبادراتها الخاصة، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية، ومبادرة الحزام والطريق.
ويوصف العصر الثالث، الحالي، بأنه “عصر تغييراتٍ كبرى لم نشهدها منذ قرون”. تزامَنَ ذلك، وفقاً لدوشي، مع انتخاب دونالد ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، مِمَّا يرمز إلى تفكُّك المحرِّك السياسي في الغرب. أصبح النظام العالمي على المحك مرةً أخرى بسبب التحوُّلات الجيوسياسية والتكنولوجية غير المسبوقة. بالنسبة لدوشي، تتطلَّب هذه الاستراتيجية من الصين إبراز قيادةٍ جديدة وتطوير معاييرها في مؤسساتٍ مثل الأمم المتحدة، وتحويل الجيش الصيني إلى قوةٍ استكشافية على مستوى عالمي لها قواعد في جميع أرجاء العالم، وترسيخ مكانة الصين في مركز سلال التوريد العالمية.
“أميركا لم تعُد قوة متفوقة”
أدلى شي جين بينغ أمام الجلسات التشريعية السنوية في بكين، أوائل مارس/آذار الماضي، بملاحظةٍ فُسِّرَت في وسائل الإعلام على نطاقٍ واسع بأنها إعلانٌ من الرئيس بأن الصين لم تعد تعتبر الولايات المتحدة قوةً متفوِّقة.
والإطار الاستراتيجي الصارم الذي يرى دوشي والمحلِّلون السياسيون لبايدن نوايا الصين من خلاله، يشترك فيه أيضاً القادة العسكريون الرئيسيون.
في حديثه إلى لجنة القوات المسلَّحة بمجلس الشيوخ في مارس/آذار، وضع الأدميرال فيليب ديفيدسون، في الوقت الذي كان يرأس فيه القيادة الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ، إطاراً زمنياً صارماً لغزوٍ مُحتَمَلٍ، قائلاً: “أعتقد أن التهديد ظهر خلال هذا العقد، وخلال السنوات الست المقبلة في الواقع”.
وأضاف: “أخشى أنهم يصعِّدون من طموحاتهم ليحلوا محل الولايات المتحدة ودورنا القيادي في النظام الدولي القائم على القواعد، والذي طالما قالوا إنهم يريدون الاضطلاع به بحلول العام 2050”.
وفي شهادته أمام نفس اللجنة، لم يحدِّد خليفة ديفيدسون، الأدميرال جون أكويلينو، موعداً للمواجهة المُتوقَّعة، لكنه قال: “رأيي أن هذه المشكلة أقرب إلينا كثيراً مِمَّا يعتقده معظم الناس. وعلينا أن نأخذ هذا الأمر على محمل الجد على المدى القريب وعلى وجه السرعة”.
Views: 2