يوم تشريني عظيم
لا أنسى ما حييت وأنا في العشرينيات من عمري ذلك اليوم التشريني البهيج عندما تلقيت أمرا عسكريا بالانتقال إلى وكالة سانا وقيادة مجموعة إعلامية تتلقى بلاغات المعارك من الناطق العسكري في غرفة عمليات الجيش وتقوم بتوزيعها على وكالات الأنباء العربية والأجنبية وعلى رهط من الصحفيين الذين توافدوا من مختلف عواصم العالم لتغطية وقائع الحرب ولا أنسى تلك اللحظة التاريخية في تمام الساعة الثانية من بعد ظهيرة السادس من تشرين الأول عندما تحلقنا كتفا إلى كتف أمام شاشة تلفاز بالأبيض والأسود آنذاك وهي تبث كلمة القائد العام للجيش والقوات المسلحة الفريق حافظ الأسد معلنا فيها ساعة الصفر وقائلا: إننا اليوم نخوض معركة الشرف والعزة دفاعاً عن أرضنا الغالية، عن تاريخنا المجيد، عن تراث الآباء والأجداد، نخوض معركة الإيمان بالله وبأنفسنا وبعزيمة صلبة وتصميم قاطع على أن يكون النصر حليفنا .. لسنا هواة قتل وتدمير، إنما نحن ندفع عن أنفسنا القتل والتدمير. لسنا معتدين ولم نكن قط معتدين، لكننا ولا نزال ندفع عن أنفسنا العدوان نحن لا نريد الموت لأحد، إنما ندفع الموت عن شعبنا إننا نعشق الحرية ونريدها لنا ولغيرنا، وندافع اليوم كي ينعم شعبنا بحريته نحن دعاة سلام، ونعمل من أجل السلام لشعبنا ولكل شعوب العالم ..
وغني عن القول أن الذكرى أي ذكرى تؤجج في النفس مشاعر فياضة وغامرة فكيف إذا كانت ذكرى حرب وطنية وعربية بحجم حرب تشرين لذلك ليس من فراغ التأكيد أن ذكريات حرب تشرين هي ذكريات امة بكاملها وصفحات فخر واعتزاز تضيء تاريخ الوطن وتنير إرثه التليد وهي راسخة على مر الأيام ومحفورة في وجدان المواطنين العرب وفي وجدان المواطنين السوريين على وجه الخصوص مهما تباعد بها الزمن إذ لا يمكن لأي مواطن سوري أن ينسى ذلك اليوم المجيد الذي اهتزت فيه المنطقة والعالم والذي فتح بابا لانتصار الإرادة العربية وأغلق أبوابا لحالة الإحباط والقنوط والهزائم النفسية التي تركتها حرب عام 1967، وهذا ما يجعل الحديث عن حرب تشرين التحريرية وذكرياتها مبعثا للعزة والأنفة والكرامة في نفوس الجميع، فعلى أرض سورية دارت رحى الحرب، وفي بيوتها ذكريات يرويها كبار السن ويتوارث الحديث عنها صغارهم جيلا بعد جيل .
وأذكر فيما أذكر أن الساعات الأولى من الحرب كانت تحمل أخبارا مفرحة وسارة للغاية من الجبهة السورية والجبهة المصرية وكان الخبر الأول الذي استلمته من الناطق العسكري أن قواتنا المسلحة دكت تحصينات العدو في الجولان وبدأت بتحطيم خط ألون باتجاه عمق الأراضي المحتلة وبالتوازي بثت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية خبر عبور وحدات من الجيش المصري قناة السويس وتدمير استحكامات الجيش الإسرائيلي واختراق خط بارليف باتجاه سيناء وللتو انقلب المشهد الإعلامي فطغت أنباء الجبهتين السورية والمصرية على جميع الأحداث وأضحى الخبر الأول في العالم ما يرد منهما .
واذكر فيما اذكر أن وكالة الإنباء ” سانا ” تحولت بعد ظهيرة اليوم الأول للحرب إلى خلية نحل تضج بالصحفيين العرب والأجانب وان المكتب الذي اتخذته مجموعتنا الإعلامية العسكرية فيها أضحى مركز استقطاب الجميع نظرا لوصول احدث أخبار المعارك إليه المرسلة من الناطق العسكري التي كنا نوزعها أولا بأول وتشكل بالنسبة للمراسلين سبقا صحفيا فريدا وازداد ضخ الأخبار مع اشتداد المعارك ولم نعرف طعم النوم طوال الليالي الأولى للحرب .
واذكر فيما اذكر أن سماء دمشق في صباح اليوم الثاني للحرب شهدت عرسا من أجمل الأعراس في تاريخها فقد كانت طائرات الفانتوم الإسرائيلية تتهاوى كما لعب الأطفال وعلب الكرتون بفضل صواريخ سام الروسية وبمهارة فائقة من قبل رجال الدفاع الجوي في الجيش العربي السوري واذكر انه تم اسر عدد ليس بقليل من الطيارين الاسرائيلين وقد كان لي شرف مهمة التحقيق مع بعضهم في مبنى القوى الجوية واحد الذين حققت معهم كان يهوديا من أصل عراقي لا يتجاوز عمره السابعة عشرة نحيلا ووجه شديد السمرة ومن إجاباته لاحظت أنهم غسلوا دماغه بالكامل إذ عندما سألته لماذا تحارب في غير بلدك الأصلي وتعرض نفسك للموت وأنت عراقي الأصل قال أدافع عن أرضنا الأصلية ارض أجدادي في فلسطين .
واذكر فيما اذكر انه في اليوم الثالث للحرب وكانت المعارك على أشدها ووجوه السوريين أينما شاهدتهم طافحة بالبشر على وقع انتصارات جيشهم وهزائم عدوهم وصلتني جريدة الثورة السورية وتتصدر صفحتها الأولى افتتاحية بعنوان خوار الثور الجريح للمرحوم احمد اسكندر احمد رئيس التحرير آنذاك ووزير الإعلام لاحقا تحدث فيها بلغة رائعة عن تقدم قواتنا المسلحة وسقوط أسطورة الجيش الذي لا يقهر ولوحة التلاحم الوطني في الجبهة الداخلية التي تقف وراء جيشنا الباسل الذي رفعت بطولاته معنويات السوريين وكل العرب الشرفاء إلى عنان السماء .
واذكر فيما اذكر انه مع الأيام الأخيرة لتراجع المعارك كلفت مع بعض الرفاق في الإدارة السياسية بمهام إيصال هدايا رمزية تكريما لبعض وحداتنا المقاتلة على الجبهة ولكم كنت سعيدا عندما كانت المهمة الأولى الذهاب إلى جبل الشيخ وتسليم هدايا لبواسلنا على مرصد ذلك الجبل الذي حررته سواعد رجال الوحدات الخاصة السورية في اليوم الأول للحرب وبعملية إنزال بطولية صعقت العدو وبما يشبه المعجزة العسكرية التي تحولت درسا يدرس في كبرى الأكاديميات الحربية العالمية وفعلا شاهدت وإنا أصافح جنودنا الرابضين هناك أن التحصينات التي أقامها العدو في المرصد تفوق الخيال ولكن إرادة المقاتل السوري كانت أقوى بكثير.
واذكر فيما اذكر أنني كلفت أيضا بمهمة إيصال هدايا تقديرية من الإدارة السياسية إلى قيادة التجريدة المغربية في قلعة جندل التي وصلت قبل الحرب لمساندة الجيش العربي السوري وهناك ألتقنينا الأشقاء في الجيش المغربي الذين شاركوا في بعض المعارك مع القوات السورية بشكل رمزي لكن هذه الرمزية كانت تنطوي على معاني كبيرة لأنها تعبر عن أن العدو الأول للعرب هو الكيان الصهيوني الغاصب وان الروح العربية المشتركة تتجلى أكثر ما تتجلى في التضامن لقتاله على الأرض وليس في الكلام والخطابات الفارغة ولاحظت الحماس الكبير والمشاعر القومية الفياضة وقد قرأتها بإمعان من خلال أحاديثهم وقسمات وجوههم العربية الأصيلة وبغض النظر عن المواقف المتخاذلة والمنبطحة للعروش والحكام العرب فان مواقف المواطنين العرب عسكريين ومدنيين ومن كل الفئات تجاه القضايا القومية المصيرية واحدة لا تتغير .
ويجدر القول انه مع حلول الذكرى الثالثة والأربعين لحرب تشرين التحريرية تبرزالاهمية القصوى لاستلهام معاني ودلالات هذه الحرب في وقت تواجه بلادنا اخطر هجمة إرهابية تكفيرية بقيادة الجهات العربية والغربية ذاتها التي ساندت العدو الصهيوني في جميع حروبه العدوانية على دول الطوق واحتلال أجزاء من أراضيها وأول هذه الدلالات أن روح تشرين في التضحية والفداء لازالت متجددة ومتجذرة في أعماق السوريين جيشا وشعبا ولم تغادرهم لحظة واحدة وهي حاضرة بقوة مذهلة اليوم للقضاء على الإرهاب والإرهابيين ومثلما خاض جيش سورية البطل معارك تشرين يخوض متلاحما مع شعب سورية الابي معارك الشرف لتطهير الوطن من رجس العصابات الإرهابية التي تشكل والعصابات الصهيونية وجهان لعملة واحدة .
وبالرغم من انقضاء أكثر من أربعة عقود على هذه الحرب فإن كل من يتحدث عنها يتحدث بنشوة النصر وفخر المنتصر وحماسة منقطعة النظير، ولأن أبطال الجيش العربي السوري احترفوا النصر فهم من سيكتبون عناوين النصر القادم على آفة الإرهاب والإرهابيين ومشغليهم .
Views: 9