“الكيان” يُريد حربًا بحثًا عن انتِصارٍ سريع ينسف المُفاوضات النوويّة.. والغارات على اللاذقيّة تَصُب في هذا الهدف.. لماذا تبدو التبريرات الروسيّة بالحِياد وعدم الرّد “غير مُقنعة” و”مرفوضة”؟ ولماذا نتَوقّع “ضبْط النفس” حتى نهاية المُفاوضات في فيينا سلبًا أو إيجابًا؟ وما هي سيناريوهات ما بعدها؟
عبد الباري عطوان
شنّت الطائرات الإسرائيليّة عُدوانًا صاروخيًّا فجْر اليوم الثلاثاء استهدف ساحة الحاويات في ميناء اللاذقيّة للمرّة الثانية في أقل من عشرة أيّام، ممّا أدّى إلى إلحاق خسائر ماديّة كبيرة، واندِلاع حرائق.
الذّريعة الإسرائيليّة لمِثل هذه الهجمات العُدوانيّة هو ضرب حاويات أسلحة وصواريخ كانت في طريقها من إيران إلى “حزب الله” في لبنان، حسب ادّعاءات ومزاعم صحافيّة، ولكن السّبب الحقيقي في رأينا “استِفزاز” سورية ودفعها إلى الرّد، الأمر الذي قد يُؤدّي إلى “غزو” إسرائيلي شامل ومُوَسَّع، لإسقاط النظام، والقضاء كُلِّيًّا على الجيش السوري والمُؤسّسة الأمنيّة، وخلط الأوراق في المنطقة برمّتها.
“إسرائيل” المرعوبة من تنامي قوّة محور المُقاومة، والتّرسانة الصاروخيّة الهائلة التي يملكها، تبحث الآن عن حربٍ بأيّ وسيلة، لتحقيق “انتِصار” يُطمئِن جبهتها الداخليّة، ويُعيد الاعتِبار لجيشها الذي فقد هيبته وتفوّقه العسكريّ في المنطقة، وترى قيادتها إن سورية المُحاصرة المجوعة الغارقة في حربٍ ضروس طِوال السّنوات العشر الماضية، هي الحلقة الأضعف في هذا المحور، ولهذا تُكرّر هجماتها، مُطمئنّةً لغِياب أيّ ردٍّ روسيّ، مُباشر أو غير مُباشر.
***
اللّافت أن هذه الغارة الإسرائيليّة على الميناء الأضخم لسورية، والذي يَبعُد 50 كيلومترًا فقط عن قاعدة حميميم الجويّة الروسيّة، تزامنت مع قرار إسرائيلي باستِثمار 376 مليون دولار لمُضاعفة الاستِيطان في هضبة الجولان المحتلّة، أيّ من 50 ألفًا إلى مئة ألف مُستوطن، وتطاول السيّد عبد الله المعلمي مندوب السعوديّة بالأمم المتحدة الشّرس والمُفاجئ على سورية، ورئيسها، وجيشها، وتأكيده بأنّ الحرب لم تتوقّف بل ما زالت مُستَمِرَّةً لإطاحة النظام السوري.
توقيت هذا الهُجوم جاء محسوبًا بدقّة، مع بداية الجولة الثامنة، وربّما الأخيرة، من المُفاوضات النوويّة في فيينا بين إيران والدّول الخمس العُظمى بشَكلٍ مُباشر، والولايات المتحدة بشَكلٍ غير مُباشر، وسط أنباء عن تحقيق تقدّمٍ كبير، نتيجة تنازلات أمريكيّة ضخمة على صعيد تلبية الشّرط الإيراني برفع كامِل للعُقوبات، مُقابل عدم إقدام السّلطات الإيرانيّة على تخصيب اليورانيوم بمُعدّلات تزيد عن 60 بالمئة، والسّماح للمُفتّشين الدّوليين بدُخول مُنشآتها النوويّة مُجَدَّدًا، فدولة الاحتِلال لا تُريد النّجاح لهذه المُفاوضات لاستِثناء البرامج الصاروخيّة الإيرانيّة، والدّور الإقليمي لإيران في منطقة الشّرق الأوسط، واحتِفاظها في الوقت نفسه بخُبراتها الجبّارة التي تُؤهّلها لصُنع قنبلة نوويّة في بضعة أشهر، كدولة “حافّة نوويّة”.
الخسائر السوريّة من جرّاء هذا القصف العُدواني الإسرائيلي، جاءت محدودةً، ومُقتصرة على بضعة حاويات لزيوت وقطع غيار آليّات وسيّارات، مثلما قال الرائد مهند جعفر قائد فوج إطفاء الحرائق في الميناء، ولكنّ الخسائر الأكبر ستكون في الجانب الروسي الذي من المُفترض أن يُوفّر الحِماية للميناء الواقع في الفناء الخلفي لقواعده العسكريّة الجويّة في حميميم، والبحريّة في طرطوس، “فكظم الغيظ” من الجانبين الرسمي والشعبي السوري والعربي أيضًا، قد لا يطول كثيرًا.
التّبرير الروسي لهذا التّخاذل والعُقوق في الرّد “مُخجل” قبل أن يكون غير مُقنع، فعندما سأل الأستاذ سلام مسافر صاحب برنامج “قُصارى القول” في قناة “روسيا اليوم” العقيد قسطنطين سيفكوف نائب رئيس أكاديميّة العُلوم الصاروخيّة والمدفعيّة في موسكو، عن ردّه على الاتّهامات المُوجّهة لبلاده عن عدم ردّها على الغارات الإسرائيليّة أجاب “أن روسيا ليست في حالة حرب مع إسرائيل أوّلًا، ولم تذهب إلى سورية لمُحاربة إسرائيل والتصدّي لغاراتها، وإنّما للتصدّي للجماعات الإرهابيّة المُسلّحة”.
لا نُجادل في صحّة ما قاله العميد قسطنطين وتبريراته، مثلما لا نُنكر في الوقت نفسه الدّور الكبير الذي لعبته روسيا في إحباط المُؤامرة الرّامية إلى تفتيت سورية وزعزعة أمنها واستِقرارها، ومنع تِكرار السّيناريوهات الليبيّة واليمنيّة والعِراقيّة على أرضها، وخسارتها المِئات من جِنرالاتها وجُنودها سالت دمائهم على أرض المعارك في سورية، ولكن هذا لا يمنعنا من مُطالبة القِيادة الروسيّة “بإكمال معروفها”، وحِفاظًا على هذه الإنجازات، وتزويد الجيش العربي السوري، الحليف والشّريك في المعركة، ضدّ الجماعات المُسلّحة التي تُهَدِّد روسيا أيضًا، بالمنظومات الدفاعيّة اللّازمة للتصدّي لهذه الغارات والطّائرات التي تُنفّذها بكفاءةٍ عالية، انطِلاقًا من حقّ الدّفاع عن النفس.
***
لسنا من الذين يُطالبون القِيادة السوريّة، بشقّيها السّياسي والعسكري، بالتهوّر، والسّقوط في مصيدة الذّرائع الإسرائيليّة، والرّد الفوري و”النّزق” على هذه الغارات في التّوقيت الذي تُريده دولة الاحتِلال، خاصَّةً والمُفاوضات النوويّة الإيرانيّة الأمريكيّة تقترب من نهايتها سلبًا أو إيجابًا، وربّما في غُضون أسابيع أو ربّما أيّام معدودة، ولكن هذا لا يعني عدم الرّد وحتميّته، وبقُوّةٍ في المُستقبل المنظور على أيّ غارة إسرائيليّة جديدة، فالعدوّ لا يفهم إلا لغة القُوّة، وكُل القوانين السماويّة والوضعيّة تُشَرِّع حقّ الدّفاع عن النفس والتصدّي للعُدوان.
القِيادة الإسرائيليّة التي انهزم جيشها، وأفلست قببها الحديديّة في معركة “سيف القدس” الأخيرة التي استمرّت 11 يومًا فقط في أيّار (مايو) الماضي، ستُهزَم حتمًا في أيّ حربٍ جديدة ضدّ محور المُقاومة، وبغضّ النّظر عن نتيجة مُفاوضات فيينا النوويّة، وقد تكون الهجمات القادمة على سورية وضرب أهداف إيرانيّة، عُنصر التّفجير لهذه الحرب.
العقيد سيفكوف نفسه قال في تصريحاتٍ صحافيّة إن هُناك أربع قِوى صاروخيّة باليستيّة مُتفوّقة في العالم، الصين وروسيا وكوريا الشماليّة وإيران، والقُوّة الإيرانيّة الصاروخيّة كفيلةٌ بتحويل إسرائيل إلى كومةِ تُراب في حالِ أيّ رد إيراني على هُجومٍ تُقدِم عليه “إسرائيل” لتدمير المُنشآت النوويّة.
ردّ محور المُقاومة سيأتي حتمًا، وربّما بات قريبًا جدًّا، وفي أيّ يوم من أيّام العام الجديد، فقد طفَح الكيْل.. والأيّام بيننا.
Views: 1