فاطمة عمراني
لم يكن أرثوذكسياً ولا كاثوليكياً، ولا حتى مسيحياً، ومع ذلك قرر أن يشتري شجرة، وأن يحتفل بعيد الميلاد هذا العام.
فكرة مجنونة دفعته للتوجه بسرعة إلى أول منطقة ذات أغلبية مسيحية خطرت على باله، وفي أقل من ساعة وصل إلى باب توما، اشترى بما تبقى من مرتبه شجرة بلاستيكية خضراء صغيرة، مع علبة فيها شرائط حمراء، نجوم ذهبية لامعة، كرات ملونة ومتعددة الأحجام.
لم يجد مقعداً شاغراً في أي من تلك السرافيس التي تعج بها ساحة باب توما عادةً، لا بأس سيركب تاكسي، فهو لن يعكر صفو مزاجه اليوم.
حين وصل إلى غرفته في الوحدة السابعة في المدينة الجامعية، كانت الكهرباء مقطوعة، رفاقه في الغرفة عادوا إلى منازل أهاليهم للاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة، لذلك جلس وحيداً يلتقط أنفاسه وظل مرتدياً المعطفين اللذين اعتاد أن يلبسهما معاً لأنه “برّيد”.
وفيما هو يحاول – للمرة الأولى في حياته – أن يزين شجرة الميلاد، جالت عيناه على طاولة الدراسة، وبنظرة خاطفة على محاضراته المبعثرة عليها، أغرته فكرة “أمنيات عيد الميلاد”. وعلى الصفحة الأخيرة من المحاضرة الثالثة لمقرر الصحة النفسية والمدرسية، بدأ بتدوين أمنياته للعام القادم.
بدأ بكتابة حرف الميم، لم يطاوعه القلم الذي يبدو أن حبره نفذ، لا بأس، سيبلل القلم بلعابه ويحاول من جديد، هذا جيد، الآن سيكتب كل ما يجول برأسه من أحلام وأمنيات وكأنه وجد مصباح علاء الدين.
“مصااااري” كرر حرف الألف أربع مرات، فيما تخيل أن يستيقظ صباحاً مع رزمٍ كثيرة من النقود تحت وسادته، بدت له الفكرة مضحكة، وتساءل عما إذا كان سيجد النقود بالليرة السورية أم بالدولار، وقهقه حين رجحت كفة الدولار في رأسه، فعيد الميلاد كريم وهو “بيستاهل”، لكن أين سيصرّف تلك الدولارات؟! بالتأكيد سيكشف أمره وسيسجن بتهمة الاتجار بالعملة الأجنبية! لن تصدق الحكومة أبداً أن أمنيات الميلاد تتحقق.
شطب “مصااااري”، فهي أمنية خطيرة قد تتحقق، سيقع في سين وجيم ومن أين لك هذا. إذاً لنجد أمنية أخرى.
“ذهب وألماس”، شطب الأمنية بلا تردد، سيعتقد الجميع أنه سرقها، فكيف لطالب جامعي في كلية التربية ويعمل نادلاً بعد الظهر أن يمتلك ذهباً وألماساً.
“الحب الحقيقي”، دغدغته الفكرة وتخيل أنه يمسك بيد فتاة جميلة، بيضاء بشعر أسود طويل، يمشيان في شوارع العاصمة، تنهد قبل أن يتذكر أنه بالكاد يؤمن ثمن طعامه، والارتباط يحتاج مالاً، فهو رجل شهم لن يدع امرأته تدفع في وسائل المواصلات أو المقاهي، كما أنه كريم، سيعزمها على حسابه على سندويشات الفلافل وكروسانات الجبنة والشوكولاتة. سيشتري لها وروداًوهدايا في عيد ميلادها وعيد الحب. شطب الأمنية وهو يتمتم “يلعن أبو الفقر”.
“التخرّج”، لا شك أن هذه أمنية آمنة، لن يسجنه أحد إذا تخرج، لن يسألوه كيف تخرجت، لا يوجد ما يثير الشبهة على الإطلاق.
سيقف على منصة التكريم، برداء التخرج الأنيق والقبعة التي حلم بارتدائها منذ طفولته، سيستلم شهادة الإجازة في التربية، قسم المناهج وتقنيات التعليم، سيلتقط الكثير من الصور، ينشرها على الفيسبوك، ثم يعود لغرفته في الوحدة السابعة في المدينة الجامعية، سيلمّ ثيابه وكتبه، ويبحث عن غرفة ليستأجرها، أرعبته فكرة أنه قد ينام في الشارع إن لم يسدد إيجار الغرفة، ربما ينام على السور الخارجي للمدينة الجامعية، أو ربما في حديقة تشرين، سيرتدي معطفيه الاثنين، ولن يدفئاه، فهو سيبقى “برّيد”.
الآن بات يعرف تماماً ما يريد أن يتمنى، “ألا أصبح برّيداً بعد اليوم”، كتبها بثقة بعد أن شطب أمنية التخرج فتلك ستتحقق عاجلاً أم آجلاً.
الكهرباء لا زالت مقطوعة، سرى دفء غريب في عروقه، خلع المعطفين، نظر إلى الشجرة التي زينها وما زالت معتمة، ابتسم ابتسامة طمأنينة بأن أمنيته ستتحقق بالتأكيد، وأن الدفء الذي يشعر به الآن هو الدليل على ذلك، وضع رأسه على الوسادة وغطّ في نوم عميق.
الأيام
Visits: 0