صورتان لفرنسا.. إلى ماذا يحنّ عربها؟…..بقلم موفق محادين 

إذا كان معروفاً حجم الجرائم التي اقترفتها الإمبريالية الفرنسية في العالم فإن حصة العرب منها وفيرة للغاية، وتتناقض مع المزاعم الفرنسية حول الديموقراطية والعلمانية والمجتمع المدني.

ابتداءً، لا بدَّ من التمييز بين فرنسا الثورة الكبرى ومقدّماتها وأزمنتها وفرنسا السياسيّة، منذ هزيمة الثورة ومجيء نابليون الثالث؛ النسخة الكوميدية من نابليون الأول، ودخول فرنسا عصر الاستعمار الثنائي مع بريطانيا، ثم مع الأميركيين.

وعلى الرغم من أنَّ الثورة الفرنسية أعقبت الثورة الدستورية في بريطانيا، فإنَّ بصمات الثورة الفرنسيّة ومقدّماتها كانت أكثر حضوراً في العالم كله، من ديكارت وفولتير وروسو ومونتسكيو وديدرو ورابليه وهوغو، إلى أراغون ورامبو وإيلوار والتوسير وبوليتزر وبرفير وفوكو وريكو وسارتر ودولوز، والتقاليد الثقافية عموماً، ولا سيما الاشتغال كما الألمان على المعرفة، مقابل الوضعية الجافة عند الأنجلوساكسون.

لم يكن العرب بعيدين من هذه التأثيرات بمستويات ومساحات متفاوتة، من المقاربات النقدية (ديكارتية طه حسين)، إلى المدارس الأدبية (جورج شحادة وأندريه شديد وجورج حنين)، إلى المناخات الروائية عند معلوف والمغاربة، إلى العصف الفكري عند أركون والجابري وعشرات المفكّرين في شمال أفريقيا العربي، وكذلك مصر ولبنان وسوريا، وقبل ذلك خير الدين التونسي والطهطاوي محمد عبده.

وسنلحظ كذلك أنَّ الاستشراق الفرنسي، كما الألماني والروسي، لم يكن كله استشراقاً من قلب الظلام، وإذ نقول ذلك، فحتى لا يتَّهمنا أحد بأننا أسرى ثقافة كراهية يجري تأصيلها بتأويلات رجعية بين الحين والحين.

أما في الحقل السياسي، ومن ضمنه المزاعم الديموقراطية، فلم تخرج فرنسا قيد أنملة عن مثيلاتها في المتروبولات، المراكز الإمبريالية، ابتداء من حملة نابليون المثقلة بالالتباس ورجال الماسونية، مروراً باشتراكية محفل الشرق الأعظم، وحتى يومنا هذا.

وإذا كان معروفاً حجم الجرائم التي اقترفتها الإمبريالية الفرنسية في العالم، كما كل إمبريالية، فإن حصة العرب منها وفيرة للغاية، وتتناقض كل التناقض مع المزاعم الفرنسية حول الديموقراطية والعلمانية والمجتمع المدني، ومن ذلك:

 

في دحض كذبة المدنية والعلمانية الفرنسية جنوباً
إضافة إلى دور العلمانية والديموقراطية البريطانية في صناعة معظم الحركات الأصولية الناعمة والخشنة وإنتاجها، حتى إنها استحقّت لقب “لندن ستان”، على حد تعبير المؤرخ والكاتب البريطاني مارك كورتيس، وإضافة إلى دور العلمانية الأميركية في صناعة وإنتاج طبعات أخرى من الإسلام الأطلسي، كانت فرنسا العلمانية المدنية الديموقراطية قد لجأت إلى الأساليب نفسها في سوريا ولبنان. وها نحن نذكّر بهذه الأساليب بمناسبة حديث الرئيس الفرنسي عن عقد اجتماعي مدني جديد في هذين البلدين:

– قبل الاحتلال الفرنسي لسوريا، كان السوريون من مختلف أرجاء سوريا الطبيعية (سوريا الحالية، لبنان، فلسطين، الأردن) قد تداعوا لعقد مؤتمر كبير هو المؤتمر السوري العام، لإعلان سوريا دولة واحدة. وقد صاغوا لها دستوراً يضاهي أحدث الدساتير في العالم، ويرفض أي صبغة طائفية أو جهوية، كما صمّموا لهذه الدولة علماً مشتقاً من العلم العربي زائد النجمة (العلم الأردني لاحقاً)، فماذا فعلت فرنسا الديموقراطية المدنية المتحضرة؟

– تمزيق سوريا التاريخية على إيقاع اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.

– تمزيق الدستور المدني الديموقراطي الذي أعدّه المؤتمر السوري العام، واستبداله بدستور طائفي يذكّر بدستور بريمر (دستور نوح فيلدمان) الذي مزّق العراق إلى كيانات طائفية.

كما استبدلت العلم العربي بعلم طائفي (أعادت المعارضة السورية استخدامه)، وتمثل نجماته 3 كيانات طائفية  ، والأخطر التعامل مع المسيحيين في سوريا ولبنان كرعايا فرنسيين، بالاستناد إلى الدستور العثماني في مرحلة السلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحميد الثاني، والذي سمح لقناصل الأجانب بالوصاية على المواطنين (المسيحيين).

هذا عن سوريا، أما في ما يخصّ لبنان، وكما سوريا الحالية، فلم يؤسّس أسلاف ماكرون لبنان على أساس ديموقراطي علماني، بل على أساس طائفي اتضح في المناقلات الجغرافية التي أجروها بين سوريا الحالية ولبنان، ووسعوا بموجبها متصرفية الطوائف (1860) ذات الأكثرية المارونية والدرزية بأراض معروفة وواسعة كانت ضمن الولاية السورية، وراحوا يفلسفون لبنان الجديد (الكبير) كأرابيسك من التنوع الطائفي (ولا سيما كتابات ميشال شيحا وكمال يوسف الحاج).

والأخطر من كل ذلك أنهم تركوا هذا البلد بعيد الحرب الثانية مقيداً بصيغة طائفية مبهمة ملغومة، وغير موثقة أصولاً وفق التقاليد المرعية في الأنظمة التأسيسية الديموقراطية، وظلت التجاذبات السياسية محكومة بصيغة رياض الصلح – بشارة الخوري، مع ميل غريب إلى عنف مسلح في كل مرة.

وليس بعيداً من حديث ماكرون الأخير حول عقد مدني ديموقراطي جديد، استرجاع الدور الفرنسي الذي خسرته باريس في اتفاق الطائف لصالح واشنطن.

حيثيات أخرى عن فرنسا الديموقراطية العلمانية صديقة بعض العرب
1- التنكّر السياسي لتحالفاتهم، بغض النظر عن الموقف منها، قبل سايكس بيكو وبعده. ومن الأمثلة على ذلك التخلّي عن محمد علي وتركه يواجه الجيوش الأوروبية وروسيا القيصرية، بعد أن تمكّن الجيش المصري من قهر الجيوش العثمانية وطرق أبواب إسطنبول، ومن ذلك:

– التخلّي عن الأمير عبد القادر الجزائري، الذي اضطرّ بعد أسره من قبل القوات الفرنسية في الجزائر إلى عقد صفقة مع نابليون الثالث لإقامة مملكة في سوريا لم ترَ النور أبداً.

– التخلّي عن التيار المعادي للصهيونية داخل ما يعرف بالقومية اللبنانية المقربة من فرنسا، وهو التيار الَّذي مثّله ميشال شيحا ويوسف كمال الحاج.

ولا يبدو أنّ التحفظ الفرنسي على سياسات الرئيس عون مقابل الحراكيين الجدد بعيد من ذلك. ولمن لا يعرف، فالحراكيون هم رجال الأجهزة الفرنسية، وفق التجربة الجزائرية، ومن هنا أخذ التعبير الحراكي في الجزائر مضمونه المشبوه مقابل المقاومة.

2- العلاقات الوثيقة مع المشروع الصهيوني، من إقامة أخطر مفاعل نووي صهيوني في الشرق الأوسط، إلى مناقشة سياسات توطين الفلسطينيين خارج أرضهم، والتي بدأت مع الرئيس ديستان.

3- الجرائم الفرنسية الدموية من شمال أفريقيا إلى سوريا، وقصف البرلمان السوري، وقبل ذلك قصف الأسواق التجارية، بل إنَّ اسم منطقة الحريقة الدمشقية يعود إلى ذلك القصف.

ومثل ذلك جرائم الاغتيالات السياسية بحق زعماء مناهضين للاستعمار الفرنسي، مثل فرحات حشاد والمهدي بن بركة.

4- تبنّي الفتن الطائفية ودعمها، من الحرب الأهلية في لبنان 1860، والصراع على مصادر تمويل الحرير، إلى مدينة ليون، إلى سياسات الظهير البربري في الجزائر.

الميادين

Visits: 2

ADVERTISEMENT

ذات صلة ، مقالات

التالي

من منشوراتنا

آخر ما نشرنا