الحديث عن سرقة الآثار السورية ليس جديداً فهو حاصل طوال سنوات الحرب، لكن ما نريد تناوله هنا هو الدوافع التي تكمن وراء هذه العملية خاصة أننا اكتشفنا العديد من الغايات غير المادية بل ترتبط بتوجهات فكرية معادية تقف وراءها «إسرائيل» على نحو خاص، إضافة إلى دوافع ترتبط بالجهل والتفسير الخاطىء للقيمة الأخلاقية والحضارية التي يشكلها المعلم الأثري من قبل أناس يضعونه في دائرة الكفر وتقليد الخلق أو الانتماء إلى عصور بائدة يجب أن تندثر بشكل نهائي!.
مشكلة سرقة الآثار وتهريبها أو تخريبها في مكانها، برزت كأحد أسوأ مرادفات الحرب التكفيرية ـــ الغربية التي تعرضت لها سورية والعراق بوجه خاص، وخلف هذه العملية يكمن التشجيع الذي تبديه بعض المتاحف ودور المزادات العالمية في اقتناء الممتلكات الثقافية الواردة إليها من دون التحقق من سند ملكيتها الشرعي، وقد ساهم ذلك في ظهور جماعات من الوسطاء وتجار الآثار والمنقبين السريين، إضافة إلى تفشي الجهل والأمية وعدم المعرفة والإدراك بأهمية الممتلكات الثقافية وبعدها الثقافي والمعرفي، وغياب برامج التثقيف والتوعية للمجتمعات المحلية بأهمية التراث الثقافي.
بطبيعة الحال، ساهمت الأوضاع الأمنية والأحداث التي شهدتها بلدان المنطقة في تأمين البيئة المناسبة لعصابات سرقة الآثار وتهريبها، فضلاً عن ضعف كفاءة بعض الأجهزة المكلفة بمراقبة المنافذ الحدودية وسوء الإدارة والإهمال في جرد وتوثيق محتويات المتاحف والمستودعات وسجلات الحفائر الأثرية.. عدا عن العولمة وثورة الاتصالات فهما الأخريان جعلتا العالم قرية صغيرة وسهلتا تنامي التجارة الإلكترونية بالممتلكات الثقافية.
رجال أعمال أتراك.. ورخص تنقيب مزيفة!
المدير العام للآثار والمتاحف الدكتور محمود حمود، قال لـ تشرين إن من الجهات التي تقوم بأعمال التنقيب السري غير الشرعي عن الآثار في سورية هي كيانات ممولة خارجياً يتزعمها رجال أعمال أتراك، وهم مرتبطون بـ «إسرائيل» وجاؤوا بإشارة منها وهذا ما يحصل في موقع دورا أوربوس في وادي الفرات.
إضافة إلى ذلك، ثمة أعمال تجري بدافع البحث عن كنوز ومكتشفات لتمويل عمليات الإرهاب من خلال بيع القطع المكتشفة، وهذا الأمر منتشر بشكل كبير وتقوم دوائر آثار تابعة للتنظيمات الإرهابية بمنح الرخص لكل من يريد ذلك مقابل دفع نسبة من قيمة المكتشفات التي يتم العثور عليها.
وأشار حمود إلى بعض أعمال التنقيب التي يقوم بها الناس العاديون الجاهلون بدافع البحث عن لقى وكنوز، وهو أمر ينتشر على نطاق واسع ولا سيما في مواقع إدلب ودرعا، لافتاً إلى أنه تم التعرف إلى بعضهم وتم إجراء اللازم لملاحقتهم قضائياً، وحالياً تقوم المديرية العامة للآثار والمتاحف بتحضير ملفات بهذا الخصوص.
سرقات من المتاحف
عن آلية السرقة، كشف ضابط ارتباط القضايا المتعلقة بالإرث الثقافي في وزارة الداخلية، المقدم جوني سنجر، أن معظم عمليات نهب الآثار السورية تمت عن طريق التنقيب غير المشروع، مشيراً إلى سرقة بعض القطع من المتاحف أو من الأماكن المحفوظة فيها في المناطق التي أصبحت تحت سيطرة المجموعات الإرهابية المسلحة كما جرى في محافظة الرقة.
وأشار المقدم سنجر إلى صعوبة التحقيق حالياً مع من كان يتعامل هؤلاء؟ وذلك نتيجة الظروف الأمنية السائدة إضافة إلى ارتباطاتهم بكيانات أخرى خارج القطر تساعدهم في إخراج القطع المسروقة، ولفت إلى أن تسهيل الحركة للمسلحين الإرهابيين ولهؤلاء المخربين عبر الحدود في الأماكن التي تقع تحت سيطرة المجموعات الإرهابية المسلحة مكّنهم من إيجاد أسواق تصريف سهلة.
وعن فئاتهم العمرية تحدث المقدم سنجر أنه لا توجد بيانات دقيقة حتى الآن بكل أسماء وأعمار من يقومون بنهب وتهريب الآثار السورية لكون معظم الحالات تجري في الأماكن الخارجة عن السيطرة، مبيناً أن معظم المهربين من فئة الشباب.
ونوه سنجر بأن الإغراءات المادية الكبيرة من جراء القيمة المرتفعة للقطع الأثرية كانت أهم الدوافع التي وقفت خلف إقدام هؤلاء على سرقة الممتلكات الثقافية، ولم يهمل معاناة مجتمعنا من ضعف الوعي بأهمية وقيمة تراثنا الثقافي العريق، منوهاً بما كان يجري قبل الحرب الجائرة التي تشن على بلدنا، مثل عدم الحفاظ على ممتلكاتنا الثقافية كما يجب.
إيديولوجيا.. تخدم المال
بدوره أكد مدير الشؤون القانونية في المديرية العامة للآثار والمتاحف أيمن سليمان أن التجربة الطويلة في التعاطي مع الجرائم الواقعة على التراث الثقافي تؤكد أن هناك جملة دوافع تقف خلف سرقة الآثار يتصدرها الدافع المادي والسعي للربح والغنى السريع، يصاحبه الجهل وقلة المعرفة بالقيمة الثقافية والدلالات الحضارية التي لا تقدر بقيم مالية للآثار التي يتم الحفر عليها من قبل عصابات التهريب وسرقتها.
وأشار سليمان إلى أن دافعاً آخر وصفه بـ (المهم جداً) يضاف إلى ذلك، وربما بات يتقدم على كل الدوافع الأخرى «وهذا ما أبرزته الأحداث التي تشهدها سورية والعراق»، قاصداً (الدافع الإيديولوجي) الذي يستند لثقافة التطرّف والسعي لمحو حضارة الآخر وتدميرها.
ويصنّف سلمان هذا الدافع بـ(الأخطر حالياً)، إذ تستغله مافيا الآثار العالمية وأعداؤنا عبر استخدام تلك الزمر والعصابات لتدمير شواهدنا الحضارية وسرقة تراثنا.
ورأى سليمان أن الاستنزاف المتنامي بات يهدد باستنزاف التراث الثقافي لمجتمعات بأسرها، باعتباره مشكلة خطيرة للدول النامية وخاصة تلك التي تفتقر إلى التشريعات المناسبة، والسياسات والموارد الكافية والموظفين المهرة لمواجهة عمليات سرقة الآثار وتهريبها، فهذه السرقة والتجارة غير الشرعية بتراث الشعوب أقل ما يمكن أن توصف به بأنها تجارة غير أخلاقية يجب ألا تحدث فضلاً عن أنها تجارة غير قانونية.
ونوه سليمان بأن التراث الثقافي السوري يعد محمياً بموجب قواعد الدستور، الذي يؤكد بدوره على أهمية حماية التراث الثقافي ونقله بأمانة للأجيال القادمة لكونه عاملاً حاسماً في تكوين الهوية الثقافية الوطنية، وينظم قواعد حماية التراث الثقافي في سورية المرسوم التشريعي رقم /222/ لعام 1963 وتعديلاته والمُتضمِّن قانون الآثار، مع التذكير بأننا قد أنجزنا مشروع قانون وطني لحماية تراثنا الأثري يتوافق ومعايير الحماية الدولية للممتلكات الثقافية، وينسجم والتطور التشريعي العالمي في هذا المجال، ويتناسب وخصوصية سورية وتنوعها الثقافي.
يشدد قانون الآثار السوري النافذ حالياً على أهمية سعي السلطات الأثرية في حدود ما ترسمه الاتفاقيات الدولية، على استعادة الآثار المهربة إلى خارج سورية، ويوجب على السلطات الأثرية أن تساعد في إعادة الآثار الأجنبية المهربة شرط المعاملة بالمثل.
«غزوات» النهب.. والأصابع الصهيونية
من جهته أكد الكاتب حسن .م. يوسف غياب الإحصاءات عما سماها «غزوات» النهب والتخريب التي قامت بها العصابات المسلحة ضد متاحفنا الوطنية ومواقعنا الأثرية، مشيراً إلى أن الآثار التي يتم ضبطها على دروب التهريب، وتلك التي تباع في المزادات العلنية العالمية تشي بضخامة عمليات التنقيب العشوائي عن الآثار التي يقوم بها الإرهابيون في الأراضي السورية.
وقال: يمكن الاستنتاج من خلال بعض المعلومات التي يتم تسريبها للصحافة، أن التنقيب العشوائي يتم بالبلدوزرات بإشراف تجار آثار محترفين، يتعاونون مع باحثين أجانب مختصين بتاريخ المنطقة!
وأوضح يوسف: مما لا شك فيه، أن معظم هذا النوع من العمليات له أهداف تجارية، لكن يمكن وصف عمليات «التنقيب بالبلدوزر» بأنها عمليات تخريب تحاول الاستيلاء على ذاكرة البلد الأثرية، وقد يكون الهدف هو الاستيلاء على الآثار والرُقم بغية العبث بمحتواها، كما حدث مع آثار إيبلا عندما تم تسريب معلومات غير صحيحة من أحد أعضاء البعثة الأثرية عن وجود أسماء يهودية في بعض الوثائق!.
يرى يوسف أن بعض العمليات تُرتجل من قبل المخربين الجهلة بهدف كسب بعض المال السهل، مستدركا بأن المخيف حقا هو ما يقال عن وجود جهات غير محلية تمارس عمليات نهب منظم لتراثنا، ولكننا لا نملك دليلاً على ذلك، لذا سيكون علينا أن ننتظر لما بعد نهاية هذه الحرب الإجرامية التي تشنها الفاشية العالمية على بلدنا، كي نتعرف على حجم التخريب الذي تعرضت له ثروات سورية الأثرية.
من كتبها.. الوهابية والإخضاع
الباحث الدكتور إليان مسعد أكد أن الدوافع وراء تدمير تنظيم «داعش» ومماثلاته المتفرعة من التنظيمات الوهابية، للآثار في العراق وسورية ونهبها وتدميرها بشكل منهجي ليس فقط اقتصادياً بهدف بيع الآثار، ولكنّ هناك عاملين إضافيين، أولهما فكر هذا التنظيم الكاره والمضطهد للآخرين عبر تدمير تراثهم وبيئتهم الاجتماعية مستمداً وحشيته من أفعال جاهلية تعود إلى ما قبل الإسلام وبعض الممارسات التي رافقت «فتح» البلدان والاستبداد بالشعوب المغلوبة على أمرها، أما السبب الثاني فيتمثل في الجانب المالي والأرباح التي يحققها التنظيم الإرهابي من جراء نهب وبيع القطع الأثرية.
وأضاف مسعد: كتاب «إدارة التوحش» لـ «أبو بكر ناجي، منظر الإرهاب، يكشف ذهنية المجموعات الإرهابية المتفرعة عن فكر الإسلام الوهابي الانعزالي والتكفيري، وليس الإسلام المعروف بتسامحه، ويقدم لنا تفسيراً ثالثاً وراء ما يقوم به التنظيم من هدم ونهب للآثار يتمثل بالسيطرة الاجتماعية والسياسية على السكان بالإرهاب والترويع لكونه يسعى إلى تنظيم السلوك الفردي وفقاً لإيديولوجيته الخاصة وتدمير النسيج الاجتماعي والثقافي أيضا كما جرى في معلولا مثلا.
معلولا التي رأى فيها مسعد تجسيداً للنموذج الوهابي (المرتجى)، قام أصحاب الفكر التكفيري باختطاف السكان ثم قتلهم بصورة مروعة والتمثيل بجثثهم وتهجيرهم، وحرق الحي الأثري بعمره الذي يناهز ثلاثة آلاف عام وتدمير الكنائس الأثرية ونهب وسرقة كنوزها وأيقوناتها وتبديد الاجتماع السكاني لمحو لغته الآرامية حتى لا تقوم لهذا المجتمع الفريد قائمة.
وخلص مسعد إلى أن هذه الاشارات تفصح أن الدوافع وراء هدم الآثار من قبل تنظيم «داعش» هي دوافع إسلامو- سياسية على وجه التحديد وأن هذه الإجراءات الهمجية تسير بطريقة أو بأخرى مع تعاليم الإسلام الخليجي السياسي القروسطوي.
لا ينكر مسعد الدوافع الأخرى وراء هدم تنظيم «الدولة» الآثار ونهبها، كالدوافع الاقتصادية، لكن يؤكد أن الأهم بعدها كإيديولوجية ترويعية لأن إجمالي الدخل الذي يحققه التنظيم من بيع هذه الآثار ليس سوى بضعة ملايين من الدولارات، مقارنة بعائدات النفط والتي تشير التقديرات إلى أنها وصلت في عام 2014 إلى نسبة تتراوح بين مليار ومليار ونصف المليار دولار، لذا فإن ما يحققه التنظيم الإرهابي من مكاسب من جراء تدمير ونهب الآثار هي مكاسب سياسية وايديولوجية واجتماعية.. موضحا أن التنظيمات الإرهابية تحرص على إنشاء «دولة» على غرار الدولة، لكن باستعمال الأسلوب المقترح من «أبو بكر ناجي» في كتابه «إدارة التوحش».
ويرى مسعد أن الإعلام العالمي ، وبدوافع مثيرة للشبهة، لا يسلط الضوء على ما سبق وبذلك هو شريك، مع التنويه بنقطة مهمة، هي عبثية الاختلافات فيما بين فكر الإسلام الوهابي السياسي بمختلف تسمياته «أخوان، قاعدة، وهابية، حزب التحرير الإسلامي، داعش أو النصرة» وبين الفكر الصهيوني وكل فكر عنصري؟!
وخلص مسعد إلى أن كلا الفكرين يسعى إلى تحويل الدين من علاقة شخصية وحميمية بين العابد والمعبود إلى دولة ونظام حكم شرس معادٍ للإنسان. ولا فرق بين الاثنين سوى في التفاصيل ومستوى الإجرام.
من الواضح أن قرصنة الآثار من أجل بيعها أو تخريبها في مكانها إذا تعذر حملها، تعود إلى عدة أهداف مادية وفكرية ترتبط بعقيدة تخريبية يدفع أصحابها المال من أجل الوصول إلى هدف التدمير والتزوير أو الاستخدام المشوه في الأبحاث، وهو أمر اشتهرت به «إسرائيل» التي نقبت كل فلسطين ولم تجد أثراً يدعم ادعاءاتها التاريخية الواهية.. هذه القضايا تحتاج دراسة حقيقية وكوادر ضخمة تعيد ما يمكن من الآثار المنهوبة وتقوم بالرد علمياً على كل ما يمكن أن يثار في هذا الموضوع.
Views: 5