المسيرُ يبدأ من شارع 29 أيار إلى جسر فكتوريا وبسطات الحلبوني وصولاً إلى تحت الجسر حيث يبسّط الباعة في منطقة البرامكة، فالمشهد الغالب هنا هو الكتب المقرصنة التي لا حقوق للمؤلف فيها، سواء تحدثنا عن الكتّاب العالميين مثل ماركيز وكازانتزاكي وإيزابيل الليندي وبورخيس وصولاً إلى الحائز جائزة نوبل مؤخراً الياباني كازوو إيشيغورو، أم تناولنا الكتاب المحلي لمؤلفين معروفين مثل نزار قباني والماغوط وأدونيس وصولاً إلى أحلام مستغانمي وعلاء الأسواني ونجيب محفوظ وغيرهم الكثير.. في هذه الأسواق من الممكن العثور على أكثر من نسخة وعدة أغلفة لرواية ألف ليلة وليلة، وأكثر من طبعة لكتاب حي بن يقظان ورسائل إخوان الصفا وقصائد الشعراء المشهورين مثل عنترة وطرفة وامرىء القيس وعروة بن الورد والمتنبي.. ليبدو الموضوع متشعباً في أكثر من اتجاه، الأول عالمي يتعلق بتوافر مؤلفات الكتّاب العالميين، والثاني يرتبط بطباعة الكتب القديمة التي لا حقوق للنشر فيها مثل شعراء العصر الجاهلي.. أما الثالث فهو مؤلفات الكتاب المحليين الذين ما إن يحصلوا على الشهرة بسبب الفوز بجائزة أو بعد سنين من تراكم التجربة، حتى تتعرض كتبهم للقرصنة رغم وجود قوانين لحماية حقوق المؤلف، فمتابعة هذا النوع من القرصنة يبدو صعباً لأن العملية أشبه بالفوتوكوبي السريعة لهذه الكتب، وأيضاً فإننا أمام ظاهرة أخرى تؤكد أن معظم المؤلفين لا يسجلون كتبهم في حماية حقوق المؤلف حسب الأصول، ما يعرض تلك الكتب للقرصنة وخاصة بعد رحيلهم حيث يتردد الورثة في ملاحقة تلك الحقوق بسبب الإجراءات القانونية التي قد تأخذ وقتاً طويلاً!.
جميع من التقيناهم يؤيدون ترجمة وطباعة الكتب العالمية في دول العالم الثالث من دون شراء الحقوق من المؤلف العالمي، ذلك أن أعلى كمية يمكن أن تطبع في تلك الدول لن تتعدى الألف نسخة وهو رقم مضحك بالنسبة لروائي عالمي يطبع ملايين النسخ أو مئات الآلاف على أقل تقدير، فمن الوجهة الاقتصادية لا يستحق الأمر الملاحقة القانونية من قبل المؤلف العالمي، لكن إن أراد ذلك فيمكنه تحقيقه بالطبع لأن القوانين الدولية والمحلية تحفظ له هذا الحق!.
هل نحن مع تسويق النصوص وإيصالها للقارىء تحت بند التنوير ونشر الوعي، أم إن الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي تقضي بالمحافظة على حقوق المؤلفين لابد من أن يكون في المقدمة كي لا تضيع البوصلة ويتم التعامل مع الأدب مثلما يفعل التجار والسماسرة مع المواد الاستهلاكية اليومية التي يتطلبها الإنسان بغض النظر عن أهداف الوعي والتنوير؟. القضية إشكالية وتترنّح بين الجانب المادي الذي يضمن للكاتب حقوقه من ناحية، والجانب المعرفي المنزّه عن المكاسب والمرابح المالية من ناحية أخرى!. كيف يمكن أن نضمن للكتّاب معيشتهم الكريمة من دون أن نحوّل مؤلفاتهم إلى باعة على البسطات؟. وكيف يمكن لنا أن نجمع المشروع الثقافي مع العيش الكريم الذي يحفظ للمؤلفين متطلبات حياتهم كما يليق بهم كمبدعين فعلاً؟.
يقول سامي أحمد صاحب دار التكوين للطباعة والنشر في دمشق، إن الدور الشهيرة بالقرصنة معروفة عربياً وهي تبدأ على الفور بطباعة كل أنواع الكتب الفائزة بالجوائز العالمية مثل البوكر للرواية العربية وجائزة نوبل العالمية وحتى الكتب التي يصفونها بأنها «بياعة» للكتاب العرب، فالهدف هنا هو مادي ربحي بحت ولا مجال للحديث عن مبادىء تنويرية تثقيفية تتعلق بنشر الوعي عند الشعب أو أبناء الجيل.. ويقول سامي:
إن المقرصنين يبيعون الكتب بأقل من سعرها الحقيقي بكثير، فمثلاً هناك بعض الكتب التي يبلغ سعرها الحقيقي 5000 ليرة سورية، يتم بيعها على البسطات بألف ليرة!. ونقصد كتب المؤلفين العالميين من روائيين وشعراء وغير ذلك من المؤلفين الطالعين للضوء بفضل الفوز بالجوائز العالمية للأدب وعلى رأسها نوبل!.
القرصنة تتم بكل بساطة عبر طباعة «الريزو» التي لا تتطلب سوى فك الكتاب من غلافه وفرطه صفحة صفحة لتبدأ عملية تشبه «الفوتوكوبي» بمعدات بسيطة تتيح الحصول على مئات النسخ بأقل التكاليف ومن ثم بيعها على البسطات تحت جسر الرئيس وفكتوريا وفي منطقة الحلبوني.. يقول بعض الكتاب والقراء المهتمين بمتابعة آخر وأهم المؤلفات العالمية إنهم مع توفير الكتب العالمية لماركيز وكازانتزاكي وبورخيس وإيزابيل الليندي وغيرهم من الكتاب المعروفين مهما كانت السبل وبغض النظر عن قوانين حقوق المؤلف، لأن القارىء العربي بحاجة للتواصل مع هذه المؤلفات وهذا ينطبق على بقية مناطق العالم الثالث التي تسمى بالدول النامية حيث لا مجال للمطالبة بحقوق المؤلف العالمي وهي من الناحية الاقتصادية لا تعني للمؤلف العالمي شيئاً لأن عدد النسخ المطبوعة قليل.. يقول سامي: «إنه وبسبب الاهتمام بالقراءة والثقافة فإن أفضل ما يمكن طباعته للكتاب العالميين هو ألف نسخة من أفضل الروايات الشهيرة، لذلك من المستبعد أن ينشغل أي مؤلف من هذا النوع بملاحقة حقوق كتابه في هذه الدول وإن شاء ذلك فهو قادر على تحصيل حقوقه لأن القانون إلى جانبه من دون شك!».
الشاعر محمد عضيمة المدرس في جامعة طوكيو، يبدو أكثر تشاؤماً من إثارة عناوين على هذه الدرجة من الأهمية وخاصة في هذه المرحلة التي نشهد فيها حرباً ضروساً مع الإرهاب وتنقلب فيها المفاهيم على أكثر من صعيد.. يقول عضيمة: «هذا موضوع معقد.. تصور أن يكون لدينا الوقت لطرح هذا الموضوع؟.. هذا ترف ثقافي، نحن في حرب.. نحن في تخلف.. ليس من حقنا طرح موضوع صعب كهذا!. من حقنا أن نقرأ ونكتب ليس أكثر.. من حق مدارسنا أن تعيش بسلام.. ومن حقنا محو الأمية..».
ربما يبدو البذخ المعرفي واضحاً في طرح عناوين إشكالية مثل قرصنة الكتب العالمية والسورية والعربية، لكن الظروف الحاصلة على الأرض وأهمها محاربة الإرهاب والقضاء عليه لا تنفصم عملياً عن العناوين الثقافية المتصلة بحقوق الكتّاب الذين هم في النهاية جزء من ذاكرة الأمة، وربما تكون قرصنة كتب المفكر والباحث السوري الشهير فراس السواح أكبر دليل على ذلك،فعلى الرغم من أنه قام بتوقيع مجموعة كتبه التي تنوف عن العشرين كتاباً في معرض الكتاب الأخير الذي أقيم في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، إلا أن إحدى الدور السورية تقوم حتى اللحظة بقرصنة تلك الكتب وطباعتها بطريقة «الريزو» أو الفوتوكوبي البائدة، إضافة إلى دار مصرية تقوم بقرصنتها وبيعها عربياً بالطريقة ذاتها، والقضية اليوم أمام المحاكم وقد صدرت أحكام قطعية أكدها صاحب الكتب ومؤلفها السواح الذي عانى الكثير من هذه القضية.. يقول سامي أحمد صاحب دار التكوين المخولة قانونياً بطباعة كتب السواح بناء على عقود نظامية مع المؤلف السواح: «عانينا من قرصنة كتب فراس السواح محلياً في دور النشر السورية، وعربياً حيث تقوم إحدى الدور المصرية بهذا الفعل، وقد صدرت أحكام بمصادرة الكتب المقرصنة من الأسواق فعلاً».
الجميع يؤيدون الحصول على الكتاب العالمي بشتى السبل، ذلك أن المؤلف العالمي لا يطالب في الغالب بحقوق النشر في بلدان العالم الثالث التي تقرصن دائماً هذه المطبوعات، وذلك عائد إلى أنها لا تقوم بطباعة سوى ألف نسخة في أفضل الأحوال، أما إذا تحدثنا عن تأمين الحقوق بشكل نظامي فإن سعر الكتاب سيرتفع بشكل كبير بالنسبة للقارىء وربما لا يتمكن الكثيرون من الحصول عليه لذلك فإن القرصنة تبدو مشروعة أخلاقياً وقانونياً بالنسبة للكثير من الأدباء والقراء.. يقول الشاعر فاتح كلثوم:
المؤسسات الثقافية ودور النشر الخاصة غير قادرة على دفع مبالغ كبيرة للمؤلف المراد ترجمة أعماله أو بعض منها، وبالتالي عند الوقوف ضد «القرصنة» سنصل إلى انقطاع تام مع الفكر الآخر الأكثر تقدماً، وهذا بحد ذاته سيجعل منا متقوقعين حول أنفسنا، وسوف يصب هذا التقوقع في مصلحة الفكر الأصولي!… يذهب كلثوم في الموضوع أبعد من ذلك فيعلن:
«من هذا المنطلق أنا مع الترجمة، حتى وإن اعتبرناها قرصنة، وهذا من حق جميع الدول الفقيرة، فالفكر الإنساني ليس ملكاً لأحد، خاصة إذا كانت الغاية هي التنوير، وهذا جلّ ما نحن بحاجته الآن»..
التداخل بين مفهوم الترجمة والقرصنة بحاجة إلى تفكيك من أكثر من اتجاه خاصة عندما نتحدث عن الحقوق المالية للمؤلفين وهم في الأعم الأغلب يعتاشون من وراء الكتابة.. يقول فاتح:
«أنا أيضاً مع ترجمة الكتب العربية إلى لغات أخرى بلا أجر للمؤلف .. شرط أن تكون الترجمة أمينه من الناحية الفنية، والفكرية.. وأفضل وهذا لن يحدث في دور النشر العربية، أن يتم إخطار المؤلف أو ورثته بذلك قبل القيام بالترجمة وبعد نشر الكتاب، أي من ناحية أخلاقية حتى تنتفي صفة القرصنة»..
الكتب الواقعة في مرمى القرصنة متنوعة وأهمها تلك التي نالت شهرة عالمية.. يقول الشاعر سامي أحمد: «أغلب الكتب المستهدفة بالقرصنة هي الكتب الفائزة بالجوائز الشهيرة مثل البوكر للرواية في قائمتها الطويلة والقصيرة ونوبل للآداب، والموضوع يتم بناء على الربح المنتظر من هذه المؤلفات بناء على سمعتها استناداً إلى الفوز بالجائزة»!.
Views: 2