تصوير- طارق الحسن
لم يستطع العنوان الذي اختاره الفنانان نهى جبارة وعبد الله عبد السلام لمعرضهما المشترك في صالة السيد للفنون «تناقض» إحالتنا إلى شبه مبدئي يفضي لاختلاف أو نفور. فلكل منهما تجربة فيها من الفرادة ما يجعلها منفصلة تماماً عن الثانية، رغم تأكيدهما أن الحالة اللونية كانت سبب التسمية الأولى لكنها لم تكن كافية كمحور يُبنى عليه أو نقطة يبدأ عندها مفترقا طرق.
في أعمالها تتابع جبارة اشتغالها على الحالة التعبيرية شارحةً حجم الضياع الكبير بين من يعيشون الحرب في غياب تفاصيل الأجساد البشرية حين تتكتل وتلتصق كأسراب الطيور بحثاً عن غاية محددة، تتطاول الشخوص، وتفقد ملامحها ومحدداتها حتى تبدو أشبه بالطحالب، لا معنى لها سوى تمايلها مع الماء كلما تحرك حتى إنها لا تعني شيئاً لأحد عدا اعتبارها مخلوقات عفنة ومزعجة. في لوحات أخرى تتفاقم مأساة الجموع المسيّرة، غير القادرة على امتلاك شخصيات محددة أو وعي حقيقي، فمع أنها أكبر حجماً إلا أنها أكثر بشاعة، فيها شيء من تشوه عبر فراغات قاسية، ربما كانت تلك محصلة لآلام متتالية، فلا شيء يفوق الحزن وجعاً كاعتياده، ولا معنى للبحث عما يليه، لذلك لا تجد شخوصها ما تتمسك به، فتناجي من يقترب منها، لعلها مناجاة من يتفرج مع نفسه أو أصوات المهملين في قاع المجتمع، من يتكدسون في الباصات المزدحمة أو المشافي المجانية.
ما سبق نلمحه في ألوان ترابية «الأزرق، البني، الأسود»، اعتادت جبارة التواصل معها بصرياً في منطقتها القلمون بعيداً عن الأخضر حتى إنها تتداخل مرات مع ضربات سريعة من الأبيض اللامع والأصفر الذهبي كحواف صخرية إشارة إلى جذوة تغذي مشاعر البؤس العامة، تتجدد باستمرار، ما يعطي البشر حولها كآبة ملحوظة تدفعهم نحو استسلام آخر، فهم لا يملكون خيارات كثيرة، يغيب معها الأرجواني والأحمر والزهري، كل ما يوحي بتغيير ما.
في لوحات عبد السلام تكثر الأسئلة والتلميحات، فالسطوح الرزينة تنبئ بحوارات حادة، فيها من الغموض ما يغري بالبحث خلفها، هل هي نهاية فورة غضب أم هدوء ما قبل العاصفة؟. في المحصلة يترك العمل مساحات واسعة أمام المتفرج لكنه يدعوه للتحلي بالصبر، فالمصير محتوم مهما تعددت الطرق معتمداً تقنيات الألوان الزيتية على القماش عبر تعبيرية وتجريدية نجدها في خلفية اللوحة، ومع اختلاف حركات الأشخاص والإيماءات يحافظ على نسق واحد متوازن بين الشخص وخلفية العمل.
تغيب تفاصيل الجسد والشكل العام للجموع على تفاوت أحجامها، لكن أشدها وضوحاً هم راقصو المولوية، في خليط مع اللون أو ضربات الريشة الصغيرة، وعلى ما يبدو فضّل الفنان الاستغناء عن الخطوط الطويلة والانكسارات القاسية، مرات يظهر الراقصون في حالة دوران لوني وحركات بشرية متناسقة، وأخرى يطغى عليهم جمود ملحوظ، لكنهم جزء من معظم اللوحات، وغاية ذلك لا تحمل بعداً دينياً أو روحياً، بقدر ما هي توحد مع المعنى العام أو لحظة اصطياد لحركة مسرحية ضمن إضاءة معينة، مثّلت لها مجموعة لونية واسعة منها «الأصفر، البرتقالي، الأخضر» مع اختلاف تموضعها على سطح اللوحة.
يمكن القول: إن تتابعاً ما يربط بين الأعمال، إذا ما عدنا إلى مواضيعها الأبعد، ففي حين تعيش أعمال جبارة مآسي الحرب المستمرة، تؤمن ألوان عبد السلام بأن الخلاص قريب وما يحمله الغد ربما يكون أجمل، إذاً لا مغزى للبحث عن تناقض أمام رؤيتين فنيتين لحالات إنسانية يجمعها ما يشترك به البشر أينما طالتهم الأحزان.
Views: 2