حياةٌ نازفةٌ كجرح لا يندمل، يزيدها ملح الهجرة والموت العبثي عفونةً وتفسّخاً…هناك في صقيع المحيطات بقايا أحبتنا الذين رحلوا مع حقائبهم التي بعثرتها التيارات الجارفة، وها هنا نحن في لهيب تحوّلات المدينة والانتظار!.
بهذه القسوة الممزوجة بتهويماتٍ سوريالية يضعنا عرض «تغفيق» (نتاج ورشة عمل مشتركة بين طلاب قسمي السينوغرافيا والتقنيات المسرحية) مباشرة في حالات شعورية حدّية، تستثير لاوعينا، وتغوص بنا إلى مستويات دفينة، إلى ما وراء سطوح الأشياء المرئية، إلى أشكالها التجريدية حيث بلعبة ذكية ومغامرة تقنية هي الأولى من نوعها يحاول صناع العمل النفاذ إلى تراكمات عقلنا الباطن، ويجعلوننا نُسقِطُ دلالات جديدة على ما نشاهده أمامنا وحولنا وفوقنا في رؤية محيطية 360 درجة، لنشكّل من تلك المنمنمات والتفاصيل الضوئية لوحة قابلة للفهم كما تعودنا في السيرورات الواقعية.
هيجانٌ شعوري قوي يرافقنا ونحن نركب قطاراً أفعوانياً مشغولاً بتقنية الليزر وبحدّين لونيين صارخين أبيض وأسود، يسحبنا معه صعوداً وهبوطاً، ملتوياً بسكّته عبر ظلال أشجار عارية تبدو كظلال أفكارٍ تقول لنا ما لا يمكن قوله شفاهاً أو كتابةً، فما نعيشه واقعياً فيه من العبثية بحيث يلزمنا قاموسٌ بصريٌّ وسمعيٌّ جديد يعوِّض قصور لغة التعبير المكررة.
لكن تشعّب التفاصيل اللونية، وكثافة الرموز وتلاحقها الذي يقطع الأنفاس تجعل من المتعذر الإحاطة بمعانيها ودلالاتها النفسية وإسقاطاتها الواقعية، ففي اللحظة التي تتلبد فيها الغيوم على قماشة تمتد فوق رؤوسنا، هناك في اللحظة ذاتها وعلى المجسمات الكرتونية تدور نتف حكاياتٍ جانبية: على مجسم أسطواني يرقص رجل وامرأة، وإلى جواره قطعة مستطيلةٌ مضلّعة يرتمي فيها عمودٌ فقري لسمكة متآكلة، فيما مجسّمٌ كروي أقرب إلينا فيه عينٌ متورّمة ماؤها عكِرٌ أحمر؛ ترمقنا مباشرةً كأنها إدانةٌ قاسية لما فعلنا وتحذيرٌ مما سنؤول إليه… ومرة أخرى في عمق الاستديو الذي يبني فيه الطلاب حكايتهم نشاهد رسماً ضوئياً لمدينة تحترق، مدينة كان من الممكن فهم رمزيتها على أنها مطلق مدينة، لكن اللقطات الفيلمية التي تتابع على الشبابيك من حولنا وتظهر فيها حديقة وممرات المعهد العالي نفسه تجعل حريقَ تلك المدينة يلسعنا ويصيبنا ويجعلنا معنيين بشكل لا فكاك منه… وإذ يظهر هناك في الأعلى مجسّمٌ لبيدق مَلِكٍ مقلوبٍ على رأسه، يشدّنا منظر الرمال التي تحاصرنا على الجانبين في إشارة واضحة لعقلية صحراوية وافدة إلينا من مدن الملح!.
في الانثروبولوجيا وعلم النفس هناك أربعون ألف سنة من عمر البشرية كونت فينا طبقات سحيقة شكّلت الأرضية الأساس لكل الألوان والانفعالات الخاصة بالحياة، ثم يحدث للنهر الجاري تحتها أن ينفجر فجأة كما في الأحلام، متدفقاً إلى أعلى، إلى المساحة الواعية، فنربط كل ما هو غير مفهوم ونشكّله لنستطيع فهم معانيه.. بهذا المنحى التدفقّي الفجائي الغرائبي عمل الطلاب واشتغلوا على الذاكرة الصوريّة الموجودة عند كل واحد من فريق العمل، خاصة تلك الانطباعات التي تراكمت خلال سني الحرب، فهاجسهم، بحسب المشرف غيث المحمود، هو كيفية معالجة هذه الصور بطريقة تجعلنا نطرح أسئلة جديدة فيما يخص العنف الدائر في حياتنا، فـهناك شيء في الصور تشاهده العين ويعالجه العقل، لكن هناك تفاصيل أخرى لا يدركها العقل فيخزنها في اللاوعي وتتحول لاحقاً إلى تصرفات وسلوكيات.. وبهذه الطريقة تلعب الميديا لعبتها حين تبث لنا يومياً هذا الكم المرعب من الدم والدمار، وهذا ما يزرع في أذهان الجميع عنفاً مضمراً ينفجر لاحقاً، لذلك فإن جزءاً من العرض يأتي كصرخة ضد عنف الميديا والعنف الواقعي. هو تنبيهٌ كي نستعيد إنسانيتنا بعيداً عن القوالب الجاهزة والتدجين.
وإذا كانت إعادة طرح أسئلة مثل: مَنْ نحن؟ وإلى أين ذاهبون؟ وما الذي يعنيه لنا المستقبل بعد الذي حدث؟! هي ما يحرّضنا عليه الطلاب، إلا أن الأهم في اعتقادي هو الإجابات التي يجب أن نهتدي إليها، فالأسئلة الوجودية قديمةٌ قدم الوجود البشري نفسه، لكن صياغة أجوبة تخصّ هذه الـ«نحن»، وتلائمنا في الزمان والمكان.. هي الإشكالية والرهان الحقيقي!.
ما قام به الطلاب، الذين لا يزالون ضمن أعوامهم التدريبية الأكاديميّة، كان مخاطرة حقيقية لجهة تقديم هذا النوع النادر من العروض، والجديد على المتلقين للعروض الكلاسيكية، إذ لم يصوغوه على طريقة الفرنسي «فيليب جانتي» وتوظيفه لـ«اللاوعي» في تحريك دُماه، إنما كانوا أقرب إلى أجواء الفرقة المسرحية الهولندية «هوتيل مودرن/Hotel Modern» في الاستفادة من تقنيات «المسرح متعدد الوسائط» حيث التوظيف المتشعب لتطبيقات ديجتالية وليزرية، مع الغرافيك متعدد الطبقات، والموسيقا المعدنية التي تشي بأجواء مُقبِضة للنفس ومهيّجة للأحاسيس، إضافة إلى شرائح فيلمية تمر بسرعة خاطفة، لكنها استفادة ذكية من دون الذوبان في الآخر، إنما مع بحث عن جماليات جديدة، مع محاولة الانتماء إلى عالم جديد لا يكونون فيه نهْب النحيب واللاجدوى!.
في عرض «تغفيق» كنا «مسرنمين»، كالسائرين في نومهم، نرى أشياء معروفة لكنها تتحول وتتغير بشكل مفاجئ وتتخذ أشكالاً أخرى مختلفة، هكذا في تجاور فانتازي سحري فتجعلنا نسبح في بحر زمنٍ فراغيّ. لكن هذا الزمن الذي يضعنا فيه فريق العمل ليس بالزمن الملموس المتعيّن بتاريخ ووقت محددين كمستقيم يصل بين نقطتين، إنما هو زمنٌ/متاهةٌ، زمنٌ يلتصق بفراغ المكان والممرات الضوئية الكثيفة التي تغمرنا بحيث نصبح معها ليس متفرّجين فقط؛ إنما جزء مكوّن لما يحدث… أَوَلسنا نحنُ في البداية والنهاية حصيلة دمج الكتلة والفراغ والزمن معاً؟!.
نعم، نحن كل شيء، ولا شيء في الوقت نفسه. نحن من روح الإله، ونحن من العنجهية والغرور والصَلف بحيث يمكننا تدمير كل ما بنته البشرية بلحظة… نحن مبدعون، ومعماريون نادرون، ونحاتون، وموسيقيون إعجازيون، ومطوّعو كائنات حية، ومهندسو فضاء، وغوّاصو أعماق، وفاتحو قارات.. ولكننا أصبحنا مجرّد أرقام، «كود» تجاري لسلعة تباع وتشترى، «مانيكانات» مستهلكة مبقورة البطون ومخلّعة المفاصل ومرميّةٌ في مستودعات الجشعين.. لقد دخلنا زمناً افتراضياً أصبح فيه الإنسان مجرّد «كائنٍ رقميّ» يتم تحديثه بكبسة زر، وحسب السوق!.
هكذا كانت آخر فقرة من عرض «تغفيق» كالصفعة التي توقظ النائم، كصرخةٍ تجعل الغافل يصحو، لعل ما تبقى من إنسانيتنا يغفر لنا، ويعيدنا إلى حقيقتنا بعد أحلام استفقنا على أنها مجرد أوهام أخرى لا أكثر.
Views: 0