مسرحيّة الفنانة الفلسطينية رائدة طه الجديدة "36 شارع عبّاس – حيفا"، التي جرى افتتحتها في بيروت مساء الخميس، تثير الجدل بعزفها للنشيد الإسرائيلي في الدقائق الأولى للعرض
رائدة طه، الممثّلة والكاتبة المسرحيّة الفلسطينيّة، التي بدأت في هذين المجالين متأخّرة، بعد أن كانت المستشارة الإعلاميّة للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. هي ابنة الشّهيد الفلسطيني علي طه، الذي شارك في اختطاف طائرتين، واستشهد خلال عمليّة اختطاف الطّائرة الثّانية "سابينا" في مطار اللدّ عام 1972، كانت في طريقها من بلجيكا إلى إسرائيل، وكان الهدف من خطفها، إجراء مفاوضات لتحرير الرهائن، مقابل تحرير أسرى فلسطينيين.
أخبرت رائدة بإسهاب قصّة والدها في مسرحيّتها السّابقة "ألاقي زيّك فين يا علي" (إخراج لينا أبيض) وكانت قد شاركت قبلها في مسرحيّة "عائد إلى حيفا" للكاتب الشّهيد غسّان كنفاني وللمخرجة نفسها، وقبلهما لعبت بمسرحيّة 80 درجة (لعليّا الخالدي).
36 شارع عبّاس – حيفا، والافتتاح بالنشيد الإسرائيلي
مسرحيّة رائدة طه الجديدة "36 شارع عبّاس – حيفا" افتتحتها مساء الخميس 28 أيلول 2017. تطلّ الممثّلة تحت دائرة الضوء، تقف بوقار، راسمة التحيّة على جبينها، على أنغام النّشيد الإسرائيلي!!..
بإمكاني وبعد الكلام عن بداية المسرحيّة، أن أضع نقطة على السّطر، وأنهي هذه المقالة، كما كنت سأفعل وأنا أشاهد المسرحيّة نفسها، وبعد أن اكتشفت أن ما سمعته هو النشيد الإسرائيلي، لولا أن الصّديقة الجّالسة إلى جانبي، استمهلتني لنعرف سبب ما فعلته الممثّلة وكاتبة النّص طه. ترجمت الممثّلة، مضمون كلمات النّشيد التي ردّدت بعض كلماته بالعبريّة، خلال بثّه على مسامعنا كاملاً، ودون أي تشويش، وما معناه "العداء للشعب الفلسطيني ووجوب محاربته، وقتله، واحتلال أرضه، وحثّ الأجيال على ذلك"؛ إن كان المقصود من بثّ النّشيد، هو إطلاعنا على مضمونه (حسبما برّرت لبعض المشاهدين الذين تساءلوا لاحقاً عن سبب فعلتها تلك) فنحن نرغب بتصديقه، لكن طريقة العرض تثير التساؤل..
الصّدمة التي قامت بها الفنّانة، وربّما تقصدها، كانت صدمة سلبيّة. لو اكتفت الممثّلة على الأقل بثوان قليلة، تمرّر خلالها جملة موسيقيّة واحدة تحت صوتها وهي تُترجم المضمون، لكانت أوصلت الفكرة، دون هذا الشّموخ والرّهبة التي ظهرت بهما مع بثّ النّشيد، كما أنّها لم تشعرنا بأيّة سخرية مِمّا سمعته، خاصّة وأن الجمهور لا يفهم العبريّة، وهو ليس مضطراً لأن يسمع نشيد دولة ينظر إليها على أنها عدوة بأكمله من البداية حتى النّهاية.
"الفن القضيّة" أصيل في لبنان
منذ سنوات ليست بقليلة، والفن الرّكيك هو الطّاغي في منطقتنا العربيّة، كما السياسة الفاسدة، وذلك بغرض تشويه ذوق وثقافة، ونفسيّة، وأخلاقيّات المواطن العربي، وأصبح الفنّان الموهوب شبه غائب، إلا من بعض المحاولات هنا وهناك، وذلك لعدم توفّر المنتج الذي يتبنى الأعمال الجيّدة، لذلك، فإن المسرح بأمسّ الحاجة لمبدعين جيّدين كالفنّانة طه، ممثّلة تمتلك الثّقافة، والعمق برؤية الأمور ومعايشتها، بالإضافة إلى تمتّعها بحضور جميل وكريزماتي.
"القضيّة" هي عنوانها في عملها الفنّي، كما صرّحت في أكثر من مكان، وهذا ما حاول تجّار الفن تغييبه، كما حاولوا تسطيح الفن وتفريغه من الروح الإنسانيّة.
لا شكّ بأن طه تعي تماماً أن الفن سلاح أمضى أحياناً، من السّلاح التقليدي، وما يلفت الانتباه، أنها استطاعت أن تستقطب جمهور متعطّش للفن القضيّة، الذي عرفته الكثير من الأعمال العربيّة واللبنانيّة، إن كان في السينما أو التلفزيون أو على خشبة المسرح.
كل فنّان أراد الصّراخ، لم يجد أفضل من مدينة بيروت التي تتمتّع بحريّة غير موجودة في دول عربيّة أخرى "مع الرّجاء أن تبقى كذلك".
أعمال فنيّة حملت هموم وطنيّة وسياسيّة
للبنان رصيد جيّد من الأعمال الفنيّة التي تحمل قضايا وهموم إنسانيّة. في السينما أُنْتِجَت العديد من الأفلام، لتصبح هناك مجموعة تحت عنوان سينما الحرب، ما بين وثائقي وروائي، على سبيل المثال، للمخرج جان شمعون، رندا الشهّال صبّاغ مارون بغدادي، روجيه عسّاف وغيرهم، وكان هناك مسرحيّات عديدة، حملت قضايا سياسيّة وإنسانيّة؛ أمّا في مسرح الرّجل الواحد أو "المرأة" الواحدة، وهو النّوع الذي تعمل عليه طه، ومن الممثّلات التي عرضت في بيروت، التونسيّة فاطمة بن سعيدان، التي شغلت الخشبة بأكملها وأبهرت بحضورها المتميّز الجمهور، كذلك نذكر الممثّل رفيق علي أحمد، الذي تألّق في مسرحه الجدّي ذو القضيّة الإنسانيّة والوطنيّة، وأبدع في العمل على السينوغرافيا، التي قصّرت بها نوعاً ما، الممثّلة رائدة، وهي التي وظّفت كل إمكانيّاتها التي تتمتّع بها، لدرجة أنك ربّما ترى المخرجين يجلسون باسترخاء معتمدين كل الاعتماد على موهبتها، وما تقدّمه لهم (خاصّة في آخر مسرحيّتين) فوقعوا بمطبّ الاتّكال عليها تماماً..
قصص كثيرة والصّمت أبلغ
الحكواتيّة رائدة طه، في جعبتها الكثير من القصص لتخبرها، والكثير منها مشوّق ومؤثّر، ولو تحدّثت للصّبح فهي لن تنتهي، لذلك كان من الممكن أن تختصر، كي تعطي مجالاً لمساحات من الصّمت، الذي يكون أحياناً، أبلغ من الكلام، حتّى وإن كانت "حكواتيّة". الصّمت، هذه النّقطة التي تغيب عن الكثيرين من الفنّانين، في مجالات مختلفة. حتى في الموسيقى هناك إشارة الصّمت. لنأخذ مثلاً مشهد سفرها من مطار اللدّ، في مسرحيّة "36 شارع عبّاس – حيفا" والذّل الذي تتعرّض له السيّدة التي تمرّ منه. هنا آثرت رائدة أن تُخفي مشاعرها، ربّما كي لا تقع بالميللودراما، لكن هناك طرق بالتمثيل غير البكاء والنّحيب، توصل من خلالها مشاعرها، أقلّه لو أخذت مساحة من الصّمت بعد انتهاء قصّتها، لا بدّ كان المشاهد بحاجة إليها، قبل أن تنقله إلى قصّة أخرى وأخرى، فتسابق الوقت لتخبر ما في جعبتها.
سينوغرافيا ومساحة لم توظّف
المسرح الخالي من أيّة عناصر، كان مغامرة لكن ليست خطيرة، لأن المخرج جنيد سري الدّين واثق من قدرات الممثّلة التي لم يوظّفها، فكان المشهد البصري فقيراً، وكان المسرح الفارغ من أيّة عناصر، يشبه المنزل الذي تُستغل زاوية من زواياه ويُهمل ما تبقّى من مساحته. مساحة لم يملأها كما يجب، وحركة الممثّلة كانت محدودة. حاولت طه أن تقوم ببعض الحركات الراقصة، فكانت خجولة ولم تنجح بملئ فراغ، لم ينجح الكلام أيضاً بملئه. لا بدّ أن عين المشاهد، كانت تحتاج لمتعة بصريّة أكبر تساعد صاحبها بمتابعة قصص الحكواتيّة، كما فعلت حين عرّفت بالبيت وغرفه والبحر المطلّ، دون أن نشاهد أي منهم. وما إلى هنالك من احتمالات. وكان أيضاً من الممكن اختصار الكمّ من الكلام في اللغة "العبريّة" حين كانت تخبر عن أي من الشخصيّات الإسرائيليّة التي مرّت بها. أمّا بالنّسبة لقصصها الكثيرة، فمن الممكن لطه جمعها بكتاب في أسلوب القصّة القصيرة أو حتى الرواية، تفادياً من تكرارها وقصّ ما يشبهها في المسرحيّات اللاحقة، وإن تغيّرت أسماء الشخصيّات التي تلعبها أو ترويها، فهي تدور في المناخ نفسه.
بعد الحروب لن يرمّم الإنسان سوى الإبداع والثّقافة
بعد بحر الدّماء التي غَرِقَت فيه منطقتنا العربيّة، لن يُنهضها إلا الفن والثّقافة والإبداع، وقبل الحجر، لأن الإبداع يبني الإنسان، وقد أصبح كيانه مزعزعاً حتى العمق، وإن كان هناك إيمان حقيقي بأن فلسطين ستتحرّر، ستكون هناك حاجة ماسّة لترميم ما هُدّمَت من نفسيّات، لن تعيدها إلا الثّقافة والإبداع والإيمان بالأرض الذين يصنعوا الوعي.
اختتمت رائدة طه مسرحيّتها بالنّشيد الفلسطيني وعلامة النّصر. أمّا النّشيد الإسرائيلي في بداية المسرحيّة، فلم يكن له أيّة ضرورة فنيّة، ولم يكن ليؤثّر غيابه إلا بالشّكل الإيجابي.
الميادين
Views: 4