رغم أنها اختارت اسماً سورياً مختلفاً، لم تنجح الندوة الثقافية الشهرية في لقائها السابع في جذب حضور يوازي الدعم الذي حظيت به في بداياتها، في دار الأوبرا هذه المرة، كان الحديث عن عبد السلام العجيلي، من وُصِفَ بـأروع حضريّ عرفته البادية، وأروع بدويّ عرفته الحاضرة.
كالمعتاد وزع الدكتور اسماعيل مروة المشرف على الفعالية، ثلاثة محاور على ضيوفه المشاركين، مع 20 دقيقة لكل منهم، لا يبدو أنها كانت مرضية لمعظمهم.
الاحتفاء بسيرة العجيلي الرقاوي «طبيباً، حكواتياً، روائياً، سياسياً»، راح إلى جوانب تستحق الإضاءة على نقاط مميزة فيها، على أن تكون جزءاً من كتاب يصدر لاحقاً، فعلى عكس المتوقع مثلاً لم يكن أدباء الفن القصصي الفلسطيني أمثال: «خليل بيدس، خليل السكاكيني، إسحاق موسى الحسيني، إميل حبيبي، غسان كنفاني، عيسى الناعوري»، هم من أسس الفن القصصي المقاوم المعني بنكبة فلسطين، والكلام للروائي حسن حميد بل لم يكونوا على الرغم من أسبقية بعضهم من الناحية الزمنية، من شق الدروب باتجاه أدب المقاومة، إنما كان العجيلي الرائد لهذا النوع من القصص الموار بالمواجهة والخيبات والخسائر، الدائر حول الزمان والمكان والقيم، لكن ما كان ذلك ليبدو ويبين لولا مشاركته في حرب فلسطين وفي جيش الإنقاذ تحديداً، لهذا، يضيف حميد: إن أي تحقيب نقدي يقول أو يشير إلى أن قصاصي فلسطين هم من كتب القصة المقاومة المواجهة، لا يعول عليه لأنه يجانب الحقيقة، وليس أدل على هذا الرأي مما كتبه «إسحاق موسى الحسيني» في «مذكرات دجاجة»، المحشوة بالترميز كي لا يشير صراحة إلى بريطانيا بوصفها فاعلة الشرور والباعثة لها.
في الأربعينيات كتب في قرى الجليل قصص «بنادق من الجليل» و«صور فلسطينية»، تحدث في الأولى عن السلاح وما يتعلق به من حكايا وأخبار لا يصدقها عقل لغرابتها وما أحاطت به من ظروف ومشكلات. يروي العجيلي، وبعيداً عن القول بالأسبقية، وفي أحاديثه الفلسطينية إنه كان يقضي نهاره في سعي محموم مع الضباط السوريين لاستكشاف الأمكنة الفلسطينية لتكون مواقع لجيش الإنقاذ وسراياه من جهة، ومصائد وأفخاخ للعصابات الصهيونية من جهة ثانية.
في مراحل متقدمة من عمره عاش حياة سياسية غنية فكان وزيراً للثقافة والخارجية ووزيراً للإعلام بالإنابة في مرحلة معينة، ولأن عدداً من الجيل الجديد لا يعرف عن تاريخ سورية إلا ما قدمه «باب الحارة»، اختارت أستاذة قسم البلاغة في قسم اللغة العربية في جامعة دمشق الدكتورة منيرة فاعور، الجانب الدبلوماسي والسياسي في سيرته الذي حُجب بتقادم العهود وتتابع الأحداث، مع العلم أنه وضع كتاباً من جزأين عن ذكرياته السياسية.. هناك عوامل في رأي فاعور جعلت من الراحل العجيلي شخصية سياسية ريادية، من ذلك شغفه المبكر بقراءة كتب التاريخ القومي والإسلامي وغيره، ومعايشته الأحداث في تلك الفترة التي كان صداها يصل إلى بلدته، وتأثره بممارسات الانتداب الفرنسي.
أول عمل سياسي انخرط فيه هو مشاركته في جمع التبرعات لمنكوبي فيضانات القلمون التي حلت عام 1933، ثم كان رئيساً للجنة الطلاب في الجامعة، ما فرض عليه المشاركة الفعالة في كل النشاطات الطلابية والنشاط السياسي، شارك أيضاً في مظاهرات انتصاراً لرجلي لبنان الاستقلاليين اللذين اعتقلتهما السلطة الفرنسية آنذاك الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، ثم كانت مظاهرات أخرى ابتهاجاً عند الإفراج عنهما، فيما بعد انتخب نائباً عن الرقة في مجلس النواب ثم التحق بجيش الإنقاذ، كما ذكر سابقاً، ويقال إنه عاد من تلك التجربة خائباً ومحبطاً وفاقداً لإحدى عينيه.
في عالمه الروائي لم يكتب عن الرقة، مدينته التي أحبها، سوى عمل روائي واحد، أتبعه بآخر قبل رحيله رواية «المغمورون»، تحدث فيها عما تعرض له الفلاحون المقيمون على ضفتي نهر الفرات قبل أن يحدث التحول الكبير في مجراه ببناء السد عليه… يتابع رئيس اتحاد الكتاب العرب نضال الصالح: عندما كتبت عنه، قلت إنه وحده من تصدى للظلم في حين أن مجمل الأعمال الروائية التي تناولت موضوع الغمر كانت على نحو مناقض لما كتبه.
أصدر أول مجموعاته القصصية عام 1948 بعنوان «بنت الساحرة»، وكانت له أقاصيص أخرى مثل «ساعة الملازم» و«قناديل إشبييلية». وكما هو معروف عن أدبه، ترك العجيلي أثرا مهماً في كتابته الروائية، بدءاً من «بسمة بين الدموع». لكن اللافت في رأي الصالح وبمنتهى الدقة النقدية، أن مجمل أبطاله كانوا من مدينة حلب، حتى إن كثيراً من الشخصيات الثانوية والمركزية حلبية أيضاً، في عالمه الروائي ستتجلى حلب على نحو لم يلتفت إليه أبناؤها من كتاب الرواية.
يقول الصالح: العجيلي يعرف حلب أكثر مني وأنا ابنها، حجارتها وآثارها وأوابدها وكل ما فيها، بل سيدفع قارئه لكي يتقرى هذه الحجارة بيديه، لكأنه أمضى جل حياته في حلب، وسنكتشف أنه كان مدركاً تماماً لما يمكن أن نسميه الفضاء الاجتماعي داخل فضائه الروائي، سيقدم لنا كثيراً من عادات الحلبيين وطقوسهم وقيمهم.
كان العجيلي عاشقاً للرقة الحزينة، يعود إليها مهما طال الغياب، حتى كان رحيله عام 2006، في جنازة وصفت يومها بالمهيبة، وهو الذي لم يكن عادياً، ولم تعرف سورية شخصية توازيه وطنية واجتهاداً، على الأقل من دون التباهي بذلك.
Views: 0