علي الراعيتُرى لو لم يتوافر لبلدة صغيرة ناعسة في ريف مصياف؛ مبدعٌ بحجم ممدوح عدوان، هل كان ثمة امرؤ سمع بقرية اسمها دير ماما، أو قيرون؟. ولو لم ترسل الآلهة مبدعين ليولدا على أكتاف قرية حصين البحر الغافية على سفوح جبال طرطوس الشمالية الشرقية من وزن سعد الله ونوس، وحيدر حيدر، هل كان أحدٌ ما، في مشرق هذا الوطن أو مغربه، سمع بذلك المكان الأثير إلى الروح اليوم؟. ومثل ذلك ينطبق على قريةٍ أخرى يزيدها جمال المكان نُعاساً ساحراً كأنّ الليل تحتها، كقرية الملاجة الصغيرة المتناثرة بيوتها على حواف الطريق بين طرطوس والدريكيش. تلك القرية التي ارتبط اسمها بالشاعر محمد عمران. واليوم يُمكننا الحديث عن «مثلث الإبداع» في ريف جبلة؛ رؤوسه قرى: قصابين، عين شقاق والسلاطة، والتي اشتهرت بـ«أدونيس، ونديم محمد وبدوي الجبل».
انجدال إبداعي
ولو عددنا تلك الأماكن في سورية الجميلة، تلك البلدات والقرى التي اشتهرت بمبدعيها لاحتاج الأمر صفحات يسرد عليها حكايات المكان الأول للمبدع الذي يسحبه معه صوب مصاف الشهرة والتكريم، بحيث تصبح تلك البلدات أقرب إلى المزارات السياحية ومحجاً يملأ الروح عبقاً وبخوراً حتى وإن أصبح صاحب المكان تحت التراب. ثمة «لغز» أو ربما سرّ قلما استطاع باحثُ أن يكتشفه أو يحله، ذلك الشيء الذي يربط بين المرء والمكان الذي ولد فيه، ذلك «الشيء» الذي يصبح مع المبدع وقد أصبح انجدالاً مع مكان ولادته، هل يُمكن تفسير ذلك النسب المكاني للكثير من المُبدعين، بمعنى يصير المكان نسباً وكنية بالمبدع حتى يغلب على الكنية الأصلية له، هذا إن لم يأخذ المكان اسم المبدع كله. فكثيراً ما عُرفت مدن وقرى، واشتهرت بمبدعين نشؤوا فيها، وكانت قبلُ مغمورة في زوايا النسيان. ولعلّ أبرز مثال على هذه الحالة هي مدينة حمص السورية، وشاعرها المُثير للجدل ديك الجن، فهي – حمص- مدينة ديك الجن، وهو ديك الجن الحمصي. وثمة مبدعون «حماصنة» كثر؛ شكلت لهم هذه «الحُمصية» نسباً وغنىً نصياً، فهذا نسيب عريضة يتحرق شوقاً لترابها ويتمنى عودته إليها حتى لو كان جثماناً مُسجىً:
يا دهرُ قد طالَ البُعادُ عن الوطن
هل عَودةٌ تُرجى وقد فات الظَعَن
عُد بي إلى حِمصَ ولو حَشوَ الكَفَن
واهتِف أتيتُ بعاثِرٍ مَردودِ
واجعَل ضريحي من حجارٍ سُودِ
وهي بالقدر ذاته من الشغف والتوق لشاعرٍ حمصيٍّ آخر هو عبد الباسط الصوفي، ولعلّ المكان هنا يكتسب المزيد من هذه الحميمية عندما يبتعد «صاحبه» المبدع عنه. ألم يحصل هذا الاندماج بين المكان وصاحبه مع صاحب المعرة «أبو العلاء المعري» أيضاً في الزمن القديم، ويحصل الأمر ذاته مع «سلمية – محمد الماغوط» رغم أن ثمة الكثير من المبدعين غير الماغوط؛ كانت «سلمية» نسبة لهم وانجدلت بأسمائهم ونصوصهم.
والأمر بالتأكيد ليس خاصية سوريّة، بل إن الأمكنة، التي تحبلُ وتحفل بمبدعيها كأم، كثيرةٌ على مدى التاريخ والجغرافيا، ألم يُعرف الإنكليز بشكسبير، والأمريكان بهمنغواي، وأمريكا اللاتينية بماركيز، وحتى بلاد اليونان القديمة التي اشتهرت بأفلاطون، وسقراط، وفيثاغورث أكثر من أي أمرٍ آخر.
ثقافة الأمكنة
في ثقافة الأمكنة؛ ثمة انجدال بين المبدع و«مسقط رأسه»، أو ما يُعرف بالبيئة الأولى للمبدع أياً كان نتاجه الإبداعي، حيث يبقى النبع الثّر الذي عليه أن ينهل منه ويمتح بواعث الإبداع طوال الوقت. فهنا كانت الخطوة الأولى، والحرف الأول، واللون الأول، والمشاهد الأولى؛ وربما العشق الأول، تلك «الأوائل» التي تُشكل النافذة لهذا المخزون الذاكري، النافذة التي تجعله يلتقط شرارة الإبداع وبذرته، ومن ثم يُقدم كلَّ ذلك إبداعاً، مرة يأتي على شكل قصيدة، ومرة أخرى على شكل قصة قصيرة، أو رواية، وحيناً لوحة تشكلية، أو عمل نحتي أو موسيقي، وغير ذلك في أمثلة أكثر من أن تُعد أو تُحصى.
هل لأجل ذلك؛ كانت كل هذه الحميمية الأثيرة للمكان الأول، أو ما اصطلح عليه بـ«مسقط الرأس» حيث تتم إعادة المبدع إليه حتى ولو كان في آخر المعمورة، هذا إن لم يكن هو نفسه قد أوصى بذلك، بإعادة رفاته ولو بعد حين وحيث صارت العظام مكاحل، كما في وصية نسيب عريضة السابقة.
من هنا أيضاً يُمكن تفسير كيف تتحول عواصم ومدن الفن الكبرى, التي ولد فيها عباقرة الفن والأدب إلى متاحف ومزارات تاريخية, وتصبح معالم سياحية تستقطب آلاف الزوار، وتصير مخطوطاتهم ورسائلهم ومسوداتهم، ولوحاتهم القديمة وحتى خربشاتهم؛ كنوزاً نادرة تُقام لها المزادات الخاصة بملايين الدولارات, والأمر هنا لا يرتبط بالمال وحده رغم كل حالة التجارة التي تسعى إلى ذلك, بل بمدى تقدير الناس للفن والابداع والابتكار، وبكل ما يتعلق بهذا المبدع. وهذا للأسف ما يفتقده المبدع ومكانه العربيان، أي جمع كل تاريخه وإبداعه في مكان يُخصص له، ربما باستثناء مساحة قبر في «جبانة» الضيعة!.
انجدال إبداعي
ولو عددنا تلك الأماكن في سورية الجميلة، تلك البلدات والقرى التي اشتهرت بمبدعيها لاحتاج الأمر صفحات يسرد عليها حكايات المكان الأول للمبدع الذي يسحبه معه صوب مصاف الشهرة والتكريم، بحيث تصبح تلك البلدات أقرب إلى المزارات السياحية ومحجاً يملأ الروح عبقاً وبخوراً حتى وإن أصبح صاحب المكان تحت التراب. ثمة «لغز» أو ربما سرّ قلما استطاع باحثُ أن يكتشفه أو يحله، ذلك الشيء الذي يربط بين المرء والمكان الذي ولد فيه، ذلك «الشيء» الذي يصبح مع المبدع وقد أصبح انجدالاً مع مكان ولادته، هل يُمكن تفسير ذلك النسب المكاني للكثير من المُبدعين، بمعنى يصير المكان نسباً وكنية بالمبدع حتى يغلب على الكنية الأصلية له، هذا إن لم يأخذ المكان اسم المبدع كله. فكثيراً ما عُرفت مدن وقرى، واشتهرت بمبدعين نشؤوا فيها، وكانت قبلُ مغمورة في زوايا النسيان. ولعلّ أبرز مثال على هذه الحالة هي مدينة حمص السورية، وشاعرها المُثير للجدل ديك الجن، فهي – حمص- مدينة ديك الجن، وهو ديك الجن الحمصي. وثمة مبدعون «حماصنة» كثر؛ شكلت لهم هذه «الحُمصية» نسباً وغنىً نصياً، فهذا نسيب عريضة يتحرق شوقاً لترابها ويتمنى عودته إليها حتى لو كان جثماناً مُسجىً:
يا دهرُ قد طالَ البُعادُ عن الوطن
هل عَودةٌ تُرجى وقد فات الظَعَن
عُد بي إلى حِمصَ ولو حَشوَ الكَفَن
واهتِف أتيتُ بعاثِرٍ مَردودِ
واجعَل ضريحي من حجارٍ سُودِ
وهي بالقدر ذاته من الشغف والتوق لشاعرٍ حمصيٍّ آخر هو عبد الباسط الصوفي، ولعلّ المكان هنا يكتسب المزيد من هذه الحميمية عندما يبتعد «صاحبه» المبدع عنه. ألم يحصل هذا الاندماج بين المكان وصاحبه مع صاحب المعرة «أبو العلاء المعري» أيضاً في الزمن القديم، ويحصل الأمر ذاته مع «سلمية – محمد الماغوط» رغم أن ثمة الكثير من المبدعين غير الماغوط؛ كانت «سلمية» نسبة لهم وانجدلت بأسمائهم ونصوصهم.
والأمر بالتأكيد ليس خاصية سوريّة، بل إن الأمكنة، التي تحبلُ وتحفل بمبدعيها كأم، كثيرةٌ على مدى التاريخ والجغرافيا، ألم يُعرف الإنكليز بشكسبير، والأمريكان بهمنغواي، وأمريكا اللاتينية بماركيز، وحتى بلاد اليونان القديمة التي اشتهرت بأفلاطون، وسقراط، وفيثاغورث أكثر من أي أمرٍ آخر.
ثقافة الأمكنة
في ثقافة الأمكنة؛ ثمة انجدال بين المبدع و«مسقط رأسه»، أو ما يُعرف بالبيئة الأولى للمبدع أياً كان نتاجه الإبداعي، حيث يبقى النبع الثّر الذي عليه أن ينهل منه ويمتح بواعث الإبداع طوال الوقت. فهنا كانت الخطوة الأولى، والحرف الأول، واللون الأول، والمشاهد الأولى؛ وربما العشق الأول، تلك «الأوائل» التي تُشكل النافذة لهذا المخزون الذاكري، النافذة التي تجعله يلتقط شرارة الإبداع وبذرته، ومن ثم يُقدم كلَّ ذلك إبداعاً، مرة يأتي على شكل قصيدة، ومرة أخرى على شكل قصة قصيرة، أو رواية، وحيناً لوحة تشكلية، أو عمل نحتي أو موسيقي، وغير ذلك في أمثلة أكثر من أن تُعد أو تُحصى.
هل لأجل ذلك؛ كانت كل هذه الحميمية الأثيرة للمكان الأول، أو ما اصطلح عليه بـ«مسقط الرأس» حيث تتم إعادة المبدع إليه حتى ولو كان في آخر المعمورة، هذا إن لم يكن هو نفسه قد أوصى بذلك، بإعادة رفاته ولو بعد حين وحيث صارت العظام مكاحل، كما في وصية نسيب عريضة السابقة.
من هنا أيضاً يُمكن تفسير كيف تتحول عواصم ومدن الفن الكبرى, التي ولد فيها عباقرة الفن والأدب إلى متاحف ومزارات تاريخية, وتصبح معالم سياحية تستقطب آلاف الزوار، وتصير مخطوطاتهم ورسائلهم ومسوداتهم، ولوحاتهم القديمة وحتى خربشاتهم؛ كنوزاً نادرة تُقام لها المزادات الخاصة بملايين الدولارات, والأمر هنا لا يرتبط بالمال وحده رغم كل حالة التجارة التي تسعى إلى ذلك, بل بمدى تقدير الناس للفن والابداع والابتكار، وبكل ما يتعلق بهذا المبدع. وهذا للأسف ما يفتقده المبدع ومكانه العربيان، أي جمع كل تاريخه وإبداعه في مكان يُخصص له، ربما باستثناء مساحة قبر في «جبانة» الضيعة!.
Views: 0