نجوى صليبه
بيتان قالهما الشّاعر نديم محمد وهو ابن الحادية عشرة، معلناً من خلالهما رفضه العادات والتّقاليد البالية التي وعى عليها في قريته عين شقاق بريف جبلة، كانا الشّرارة الأولى التي ألّبت عليه حفنة من رجال منغلقي الفكر آنذاك، فرموه بتهم كثيرة جعلته يهجر القرية إلى أخرى، وعفوا عنه لاحقاً بحجة أنّه طفل صغير أو لوجاهة والده، لتبدأ بعدها رحلة المعاناة والألم والتّمرّد والظلم الذي حال دون طباعة دواوينه التي لا تقل أهمية عن دواوين آخرين من شعراء سبقوه أو عاصروه أو لحقوه، من حيث الموضوع والأبعاد الشعرية والكلمة، لم يشغل منصباً وهو المكرم خارج سورية بشهادات تؤهّله لشغل أي منصب آنذاك لكنّه كان يأبى ذلك حسبما اتفق من قرأ شعره وسيرته الذاتية ومن جالسه..
شاعر ذو موهبة فذّة وقوية، رحل منسياً ويقال فقيراً، ورحل معه شعره غير المجموع إلّا مرّة واحدة بتوجيه من الرئيس الرّاحل حافظ الأسد بعد منحه وسام الاستحقاق من الدّرجة الأولى، وحتى هذه النسخة ما عاد لها وجود، ويوصف بشاعر الآلام والعناكب لأنه أصدر آلامه وأصدر فراشاته وعناكبه، ومن هنا استقى القائمون على ندوة الأربعاء الثقافية -التي تقيمها وزارة الثقافة شهرياً في مكتبة الأسد- عنوان ندوتهم مختصرين مسيرة شاعر من النّسق الأعلى غزلاً وشعراً وطنياً وقومياً بالعناكب والآلام، عنوان يثير الاستهجان والأسف لظلم نديم محمد الراحل منذ عام 1994، وهم الذين أرادوا تكريمه, وبالسّؤال عن سبب هذا العنوان يجيب الدكتور إسماعيل مروة مدير الندوة: العنوان مستوحى من عناوين مجموعاته الأولى بعنوان «فراشات وعناكب» والثانية «آلام»، العنوان عبارة مفتاحية دائماً يجب أن نبحث عن العنوان الجاذب لأن الثقافة بضاعة وبحاجة للترويج لها والدعاية وليست قضية ترفيهية يأتي إليها الناس إن لم نجذبهم، لذلك لا بأس من اللعب على العنوان.
يبين مروة أنّ الشاعر محمد ظلم نفسه بنفسه كما أنّ هناك من أوقع الظّلم عليه، عبّر عن ضائقته الكبرى في الحياة وهي ظاهرة الفساد التي جعلته بعيداً عن كل نوال أو منصب – كما يقول مروة- وعلى الرّغم من ذلك لم يقرأ أي من المحاضرين قصيدة له يفضح فيها الفساد الذي ساد عصره.
ويستمر ظلم نديم محمد، حين يصبح جزء من حياته الخاصة مشاعاً للجميع -محاضرين وحضوراً- سواء حبّه للكأس أو وضعه المادّي، يقول الدّكتور محمد رضوان الداية: أعتقد أن نديم أخذ من بيت المتنبي الكأس والنّديم.. لم يأخذ المسكن ولم يستطع إدارة أمور حياته, يشير الداية إلى بيت تم حذفه من ديوان «آلام» وهو: «أيها المشفقون لا تلمسوا الجرح في صدري فتوقظوا كبريائي» ليتبع هذا التنويه بالقول: كبرياء نديم محمد مغمسة بخطيئاته بحق نفسه وهذا أمر عجيب، كان يستحق من النّاس أكثر مما ظهر منهم.. لم يحتملوه ولم يحتملهم، معللاً بهذا سبب عدم نشر دواوينه، ومضيفاً سبباً آخر: ألا وهو توغّله في الغزل وتجاوزه المحظورات والحدود، يقول الداية: لو أرادت وزارة الثقافة طباعة دواوينه ستحذف الكثير لأنه تجاوز الأمر والحدود وهواجس النفس والصراحة الزائدة وفكّر بصوت عالٍ وهذه عادة لا نحاسب عليها, وباعتبار أنّ الشيء بالشيء يذكر لابدّ من التذكير أنّ غزليات نزار قباني لم تمنع دواوينه من النّشر، لكن يعود الداية وينبّه إلى أمر مهم ألا وهو أنّ شاعرية محمد النفاذة مكّنته من أن يقول كل كلامه شعراً بأي لحظة وهذا دليل طاقة وقدرة على الإبداع الفني، منوّهاً بأنّ طه حسين مدح شعره ووصفه بالشّاعر العربي.
تركزت عبقرية نديم محمد كما اتفق المحاضرون حول حياته وشخصه وآماله البسيطة في العيش كما يشاء، وانعكست على شعره الذي ما قالوا منه في الندوة إلا القليل ربما خجلاً من غزله «المتوغل» وربما لضيق الوقت على الرغم من استمرار الندوة ساعتين، أما الدّكتور رياض العوابدة فبيّن أنّ في شعر محمد بعدين الأول الرّومانسي والثاني القومي، وأوضح أنّه حتى الرّومانسي منه طعّمه بالقومي، مستشهداً من الغزل بقصيدة «خبز الحياة» ومن القومي بـ«الطلول الماطرة»، يقول: تجربته غزيرة الإبداع ومتعددة الأشكال والكتابة وهواجس الإبداع لديه فخر بمآثره الشخصية وبوح بمشاعره وبكاء على الراحلين، تفنن بالرومانسية والكلاسيكية فكتب وأفاد من التّراث، لكنّه ككثير من الشّعراء تأثّر بالمدرسة الرّومانسية، أمّا شعر المناسبات الذي كتبه ويكتبه أي شاعر فيفقد بريقه مع مرور الزّمن.
وعلى خلاف الدّكتور الداية، بعيداً عن الحياة الشخصية وقريباً من الصفات الخلقية، قال مالك صقور الوحيد من بين المحاضرين الذي عرف الشاعر نديم محمد عن قرب وجلس معه: نديم الشاعر المتمرد والمتذمر والملول والناقد والناقم والقلق والصادق والشفاف من أهم شعراء القرن العشرين في سورية والوطن العربي, وكتب خلال سبعين عاماً شعراً بدم قلبه، لا يهمني إيمانه ولا مادته، فرجال قريته الذين نفوه وهو في الحادية عشرة من عمره بسبب بيتين من الشعر عادوا ونفوه بسبب قصيدته «أين الحقيقة»، يهمني شعره الذي يضع المفتاح بيد الباحث ويكشف قوة شخصيته المتمردة في كل مراحل حياته.. نديم الذي غادر سورية إلى باريس للدراسة وعاد عام 1930 ليعيش في قريته التناقض الذي هرب منه فبدأ يحارب عاداتها من جديد.
ويذكر صقور أنّ الشاعر محمد قابل كبار مسؤولي الدولة في عصره، لكنّه كما يتفق الجميع كان أبي النفس لا يطلب شيئاً.. ويضيف: عاش بعيداً عن الشهرة ربما بسبب البعد عن المركز، لكن عندما يستطيع نديم محمد في تلك الفترة وهو ابن جبلة أن يترك هذا الأثر فهذا يدلّ على قوته وشعريته..
Views: 5